ولم يرد - هنا - به الجهل الذي هو ضدّ العلم، وإنما أراد الجهل الذي هو ضدُّ الاختيار، يقول : يحسبهم من لم يختبر أمرهم أغنياء، و « أغنياءَ » هو المفعول الثاني.
قوله :﴿ مِنَ التعفف ﴾ في « مِنْ » هذه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها سببيةٌ، أيك سَبَبُ حُسْبَانِهم أغنياء تعفُّفهم، فهو مفعولٌ من أجله، وجرُّه بحرف السبب هنا واجبٌ، لفقد شرطٍ من شروط النصب، وهو اتحاد الفاعل، وذلك أنَّ فاعل الحسبان الجاهل، وفاعل التعفُّف هم الفقراء، ولو كان هذا المفعول له مستكملاً لشروط النصب، لكان الأحسن جرَّه بالحرف؛ لأنه معرَّفٌ بأل، وقد تقدَّم أنَّ جرَّ هذا النوع أحسن من نصبه؛ نحو : جئت للإكرام، وقد جاء نصبه؛ قال القائل :[ الرجز ]

١٢٤٠- لاَ أَقْعُدُ الجُبْنَ عَنِ الهَيْجَاءِ وَلَوْ تَوَالَتْ زُمَرَ الأَعْدَاءِ
والثاني : أنها لابتداء الغاية، والمعنى أنَّ محسبة الجاهل غناهم، نشأت من تعفُّفهم؛ لأنه لا يحسب غناهم غنى تعففٍ، إنما يحسبه غنى مالٍ، فقد نشأت محسبته من تفُّفهم، وهذا على أنَّ تعفُّفهم تعففٌ تام.
والثالث : أنها لبيان الجنس، وإليه نحا ابن عطية، قال : يكون التعففُ داخلاً في المحسبة، أي : إنه لا يظهر لهم سؤالٌ، بل هو قليلٌ، فالجاهل بهم مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عنه، ف « مِنْ » لبيان الجنس على هذا التأويل.
قال أبو حيَّان :« وليس ما قالَه مِنْ أنَّ » مِنْ « هذه في هذا المعنى وهو أن تتقدَّر » مِنْ بموصولٍ، وما دخلت عليه يجعل خبر مبتدأ محذوف؛ كقوله تعالى :﴿ فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان ﴾ [ الحج : ٣٠ ] يصح أن يقال : الذي هو الأوثان، ولو قلت هنا :« يَحْسَبُهُم الجَاهِلُ أغنياء الَّذِي هُوَ التَّعفف » لم يصحَّ هذا التقدير؛ وكأنه سمَّى الجهة التي هم أغنياء بها بيان الجنس، أي : بيَّنت بأيِّ جنسٍ وقع غناهم، أي : غناهم بالتعفف لا غنى بالمال، فسمَّى « مِنْ » الداخلة على ما يبيِّن جهة الغنى ببيان الجنس، وليس المصطلح عليه كما قدَّمناه، وهذا المعنى يؤول إلى أنَّ « مِنْ » سببية، لكنها تتعلق بأغنياء، لا بيحسبهم «. انتهى.
وتتعلَّق »
مِنْ « على الوجهين الأولين بيحسبهم. قال أبو البقاء رحمه الله :» ولا يجوزُ أن تتعلَّق بمعنى « أغْنِياء » ؛ لأنَّ المعنى يصير إلى ضد المقصود، وذلك أنَّ معنى الآية : أنَّ حالهم يخفى على الجاهل بهم؛ فيظنُّهم أغنياء، ولو علِّقت بأغنياء، صار المعنى، أنَّ الجاهل يظنُّ أنهم أغنياء، ولكن بالتعفف، والغنيُّ بالتعفف فقيرٌ من المال «. انتهى، وما قاله أبو البقاء يحتمل بحثاً.
وأما على الوجه الثالث - وهو كونه لبيان الجنس - فقد صرَّح أبو حيان بتعلُّقها بأغنياء؛ لأن المعنى يعود إليه، ولا يجوز تعلُّقها في هذا الوجه بالحسبان، وعلى الجملة : فكونها لبيان [ الجنس، قلق المعنى ].


الصفحة التالية
Icon