الصفة الخامسة : قوله :﴿ لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً ﴾ في نصبه « إلحافاً » ثلاثة أوجه :
أحدها : نصبه على المصدر بفعلٍ مقدَّر، أي : يلحفون إلحافاً، والجملة المقدرة حالٌ من فاعل « يَسْألون ».
والثاني : أن يكون مفعولاً من أجله، أي : لا يسألون؛ [ لأجل الإلحاف.
والثالث : أن يكون مصدراً في موضع الحال، تقديره : لا يسألون ] ملحفين.
فصل في تفسير الإلحاف
الإلحاف : هو الإلحاح؛ قال عطاءٌ : إذا كان عنده غداءٌ لا يسأل عشاءً، وإذا كان عنده عشاءٌ لا يسأ غداءً.
وعن ابن مسعودٍ إن الله يحب العفيف المتعفف، ويبغض الفاحش البذيء السَّائل الملحف، الذي إن أعطي كثيراً، أفرط في المدح، وإن أعطي قليلاً أفرط في الذَّمِّ.
وعن رسول الله - ﷺ - :« لاَ يَفْتَحُ أَحَدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلاَّ فَتح الله عليه بَابَ فَقْرٍ، ومَنْ يَسْتَغْنِ، يُغْنِه اللهُ، ومَنْ يَسْتَعْفِفْ، يُعِفَّهُ الله، لأنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلاً يَحْتِطِبُ فِيهِ فَيَبِيعَهُ بمُدٍّ مِنْ تَمْرٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَل النَّاسَ ».
فصل
اعلم : أنَّ العرب إذا نفت الحكم عن محكوم عليه، فالأكثر في لسانهم نفي ذلك القيد؛ نحو :« مَا رَأَيْتُ رَجُلاً صَالِحاً »، الأكثر على أنك رأيت رجلاً، ولكن ليس بصالح، ويجوز أنَّك لم تر رجلاً ألبتة؛ لا صالحاً ولا طالحاً، فقوله :﴿ لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً ﴾ المفهوم أنهم يسألون، لكن لا بإلحاف، ويجوز أن يكون المعنى : أنهم لا يسألون، ولا يلحفون؛ والمعنيان منقولان في التفسير، والأرجح الأول عندهم، ومثله في المعنى :« مَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثَنَا » يجوز أنه يأتيهم، ولا يحدِّثهم، ويجوز أنه لا يأتيهم ولا يحدِّثهم، انتفى السبب، وهو الإتيان، فانتفى المسبِّب، وهو الحديث.
وقد شبَّه الزجاج - رحمه الله تعالى - معنى هذه الآية الكريمة بمعنى بيت امرئ القيس؛ وهو قوله :[ الطويل ]
١٢٤٤- عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ | إِذَا سَافَهُ العَوْدُ النَّبَاطِيُّ جَرْجَرَا |