قوله أولاً :« بالعدلِ مُتَعَلِّقٌ بقوله فَلْيَكْتُب » يريد التعلق المعنوي؛ لأنَّه قد جوَّز فيه بعد ذلك أن يكون حالاً، وإذا كان حالاً تعلَّق بمحذوف لا بنفس الفعل.
وقوله :« ويجوزُ أن يكون مفعولاً » يعني فتتعلق الباء حينئذٍ بنفس الفعل.
والثاني : أن يتعلَّق ب « كَاتِب ». قال الزَّمخشريُّ :« مُتَعَلِّقٌ بكاتب صفةً له، أي : كاتبٌ مأمونٌ على ما يَكْتُب »، وهو كما تقدَّم في تأويل قول أبي البقاء. وقال ابن عطيَّة :« والبَاءُ متعلِّقةٌ بقوله :» ولْيَكْتُبْ «، وليست متعلِّقة بقوله » كَاتِبٌ « ؛ لأنه كان يلزم ألاَّ يكتب وثيقةً إلا العدل في نفسه، وقد يكتبها الصّبيُّ والعبد ».
الثالث : أن تكون الباء زائدةٌ، تقديره : فليكتب بينكم كاتب بالعدل.

فصل في معنى العدل


في تفسير العدل وجوه :
أحدها : أن يكتب بحيث لا يزيد، ولا ينقص عنه، ويكتب بحيث يصلح أن يكون حجَّة له عن الحاجة إليه.
وثانيها : لا يخصّ أحدهما بالاحتياط له دون الآخر، بل يكتبه بحيث يكون كل واحد من الخصمين آمناً من تمكن الآخر من إبطال حقّه.
ثالثها : قال بعض الفقهاء : العدل أن يكون ما يكتبه متّفقاً عليه بين أهل العلم، بحيث لا يجد قاضٍ من قضاة المسلمين سبيلاً إلى إبطاله على قول بعض المجتهدين.
ورابعها : أن يحترز عن الألفاظ المجملة المتنازع في المراد بها، فهذه الأمور لا يمكن رعايتها إلاَّ إذا كان الكاتب فقيهاً عارفاً بمذاهب المجتهدين، أديباً مميّزاً بين الألفاظ المتشابهة.
قوله :﴿ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ ﴾ وهذا ظاهره نهي الكاتب عن الامتناع عن الكتابة وإيجاب الكتابة على كل من كان كاتباً، وهذا على سبيل الإرشاد، والمعنى : أنَّ الله تعالى لمَّا علمه الكتابة وشرفه بمعرفة أحكام الشَّريعة، فالأولى أن يكتب تحصيلاً لمهمّ أخيه المسلم شكراً لتلك النِّعمة، فهو كقوله تعالى :﴿ وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ ﴾ [ القصص : ٧٧ ].
وقال الشعبي : هو فرض كفاية، فإن لم يوجد من يكتب غيره وجب عليه الكتابة، وإن وجد غيره؛ وجبت الكتابة على واحد منهم.
وقيل : كانت الكتابة واجبة على الكاتب، ثمَّ نسخت بقوله تعالى :﴿ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ ﴾.
وقيل : متعلِّق الإيجاب، هو أن يكتب كما علمه الله، يعني : أنَّه بتقدير أنه يكتب، فالواجب أن يكتب كما علَّمه الله، ولا يخلّ بشرط من الشّرائط، ولا يدرج فيه قيداً يُخلّ بمقصود الإنسان.
قوله :﴿ أَنْ يَكْتُبَ ﴾ مفعولٌ به، أي : لا يأب الكتابة.
قوله :﴿ كَمَا عَلَّمَهُ الله ﴾ يجوز أن يتعلَّق بقوله :﴿ أَنْ يَكْتُبَ ﴾ على أنه نعتٌ لمصدر محذوف، أو حالٌ من ضمير المصدر على رأي سيبويه، والتقدير : أن يكتب كتابةً مثل ما علَّمه الله، أو أن يكتبه أي : الكتب مثل ما علَّمه الله.


الصفحة التالية
Icon