ومن سكَّنها أجرى المنفصل مجرى المتصل، وقد تقدَّم هذا في أول هذه السورة، قال أبو حيَّان - رحمه الله - :« وهذا أشذُّ من قراءة من قرأ :﴿ ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة ﴾ [ القصص : ٦١ ].
قال شهاب الدين : فجعل هذه القراءة شاذةً وهذه أشذُّ منها، وليس بجيد، فإنَّها قراءة متواترة قرأ بها نافع بن أبي نعيم قارىء أهل المدينة فيما رواه عنه قالون، وهو أضبط رواته لحرفه، وقرأ بها الكسائي أيضاً وهو رئيس النحاة.
والهاء في » وليُّه « للذي عليه الحقُّ، إذا كان متصفاً بإحدى الصِّفات الثلاث؛ لأن وليَّه هو الَّذي يُقر عليه بالدَّين كما يقرُّ بسائر أُموره، وقال ابن عبَّاس، ومقاتلٌ والرَّبيعُ : المراد بوليِّه : وَلِيُّ الدَّين وهذا بعيدٌ؛ لأَنَّ قول المُدّعي لا يقبل، فإِن اعتبرنا قوله، فأيُّ حاجة إلى الكتابة، والإشهاد؟
وقوله :» بالعدْلِ « تقدَّم نظيره.
فصلٌ
واعلم أَنَّ المقصود من الكتابة : هو الاستشهادُ؛ لكي يتمكَّن صاحب الحقّ بالشُّهود إلى تحصيل حقّه عند الجحود.
وقوله :» فاسْتَشْهِدُوا « يجوز أن تكون السِّين على بابها من الطَّلبِ، أي : اطلبُوا شهيدَين، ويجوزُ أن يكونَ استفعل بمعنى أفعل، نحو : اسْتَعْجضلَ بمعنى أَعجَل، واستيقن بمعن أَيقَنَ فيكون » اسْتَشْهِدُوا « بمعنى شهدوا، يقال أشهدت الرَّجُل واشتشهدته بمعنى واحدٍ، والشَّهيدان : هما الشَّاهدانِ، فعيلٌ بمعنى فاعلٍ.
وفي قوله :» شَهِيدَيْن « تنبيهٌ على أَنَّهُ ينبغي أن يكون الشَّاهد ممَّن تتكرَّرُ منه الشَّهادةُ، حيث أَتَى بصيغة المبالغة.
قوله :» مِنْ رِجَالِكُمْ « يجوزُ أن يتعلَّق باستشهدوا، وتكونُ » مِنْ « لابتداء الغاية، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ، على أَنَّهُ صفةٌ لشهيدين، و » مِنْ « تبعيضيةٌ.
فصلٌ
في المراد بقوله :﴿ مِّن رِّجَالِكُمْ ﴾ ثلاثة أقوال :
أحدها : قال أكثر العلماء : المراد الأَحرارُ المسلمون.
الثاني : قال شريحٌ، وابن سيرين : المراد المسلمون؛ فيدخل العبيد.
الثالث : من رجالكم الَّذين تعدونهم للشَّهادة، بسبب العدالة. حجَّةُ شريح، وابن سرين : عمومُ الآية؛ ولأَنَّ العدالة لا تختلف بالحريَّة والرِّقِّ، واحتَجَّ الآخرونَ بقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ ﴾، وهذا يقتضي : أَنَّ الشَّاهد؛ يجب عليه الذَّهاب إلى موضع أدَاءِ الشَّهادة، ويحرمُ عليه الامتناعُ والإِجماعُ على أَنَّ العبد لا يجبُ عليه الذَّهابُ، فلا يكونُ شاهداً، وهذا مذهبُ الشَّافعي، وأبي حنيفة.
والجواب عن قوله :﴿ مِّن رِّجَالِكُمْ ﴾، أي : الذين تعدُّونهم لأداء الشَّهادة، كما قدَّمناهُ.
قوله :﴿ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ ﴾، جوَّزوا في » كَانَ « هذه أَنْ تكون النَّاقصة، وأَنْ تكون التامة، وبالإِعرابين يختلفُ المعنى : فإنْ كانت ناقصةً فالألفُ اسمها، وهي عائدةٌ على الشَّهيدين أي : فإن لم يكنِ الشّاهدان رجُلَين، والمعنى على هذا : إن أغفَل ذلك صاحبُ الحقّ، أو قصد أَنْ لا يُشهد رجلين لغرض له، وإن كانت تامّةً فيكون » رجلين « نصباً على الحالِ المؤكِّدة كقوله :