ويجوزُ أن يكونَ بدلاً مِنْ « مِنْ » بإعادةِ العامل، كما تقدَّم في نفسِ ﴿ مِمَّن تَرْضَوْنَ ﴾، فيكونُ هذا بدلاً مِنْ بدلٍ على أحدِ القَوْلينِ في كلِّ منهما.
فصلٌ
قوله ﴿ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء ﴾ كقوله تعالى في الطلاق :﴿ وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ ﴾ [ الطلاق : ٢ ] وهذه الآية تدلُّ على أَنَّهُ ليس كلُّ أحدٍ يكونُ شاهداً، والفقهاءُ شرطوا في الشَّاهد الَّذي تقبلُ شهادته عشرة شروطٍ : أَنْ يكونَ حُرّاً بالغاً، مسلماً عدلاً، عالماً بما شهد به؛ ولا يجر بتلك الشَّهادة منفعة إلى نفسه، ولا يدفع بها مضرَّة عن نفسه، ولا يكون معروفاً بكثرة الغلطِ، ولا بترك المُروءةِ، ولا يكُونُ بينه وبين من يشهد عليه عداوة.
وقيل : سبعة : الإِسلامُ، والحريَّةُ، والعقلُ، والبُلُوغُ، والعدالةُ، والمروءةُ وانتفاء التُّهمة.
قوله :﴿ أَنْ تَضِلَّ ﴾ قرأ حمزة بكسر « إِنْ » على أنَّها شرطيَّةٌ والباقون بفتحها، على أنَّها المصدريةُ النَّاصبةُ، فأمَّا القراءة الأولى، فجوابُ الشَّرط فيها قوله « فتذكِّرُ »، وذلك أَنَّ حمزة رحمه الله يقرأ :« فَتُذَكِّرُ » بتشديدِ الكافِ ورفعِ الراءِ؛ فصَحَّ أن تكونَ الفاءُ، وما في حيِّزها جواباً للشَّرط، ورَفَعَ الفعل؛ لأَنَّهُ على إضمارِ مبتدأ، أي : فهي تُذَكِّر، وعلى هذه القراءة فجملة الشَّرطِ والجزاءِ هل لها محلٌّ من الإِعراب أم لا؟
فقال ابن عطيَّة : إِنَّ محلَّها الرَّفْعُ صفةً « لامْرَأَتَيْن »، وكان قد تقدَّم أنَّ قوله :« مِمَّنْ تَرْضَوْنَ » صفةٌ لقوله « فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَان » قال أبو حيان - رحمه الله - :« فَصَارَ نظيرَ جَاءَني رجُلٌ، وامرأتان عُقَلاَءُ حُبْلَيَان » وفي جواز مثل هذا التّركيب نظرٌ، بل الَّذي تقتضيه الأَقيسة تقديمُ « حُبْلَيَان » على « عُقَلاَء » ؛ وأمَّا إذا قيل بأنَّ « ممَّنْ تَرْضَوْن » بدلٌ من رِجَالِكُم، أو مُتعلِّقٌ باستشهِدُوا، فيتعذَّر جعلُه صفةً لامرأتين للزومِ الفصل بين الصِّفة، والموصوفِ بأجنبيّ. قال شهاب الدين - رحمه الله - : وابن عطيَّة لم يَبْتَدِعْ هذا الإِعرابَ، بل سبقه إليه الواحديُّ فإنه قال : وموضعُ الشَّرط وجوابُه رفعٌ بكونهما، وصفاً للمذكورين وهما « امْرَأَتَانِ » في قوله :« فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ » لأنَّ الشَّرطَ والجزاءَ يُوصَفُ بهما، كما يُوصَف بهما في قوله :﴿ الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة ﴾ [ الحج : ٤١ ].
والظاهرُ أنَّ هذه الجملةَ الشَّرطية مستأنفةٌ للإِخبار بهذا الحُكْم، وهي جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر، كأَنَّ قائلاً قال : ما بالُ امرأتين جُعِلَتا بمنزلةِ رجل؟ فأُجيب بهذه الجملة.
وأمَّا القراءةُ الثَّانيةُ؛ ف « أَنْ » فيها مصدريَّة ناصبة للفعل بعدها، والفتحةُ فيه حركةُ إعرابٍ، بخلافها في قراءةِ حمزة، فإنها فتحةُ التقاءِ ساكنين، إذ اللامُ الأولى ساكنةٌ للإِدغام في الثَّانية، مُسَكَّنةٌ للجزم، ولا يُمكنُ إدغامٌ في ساكنٍ، فحرَّكنا الثَّانية بالفتحة هرباً من التقائِهما، وكانتِ الحركةُ فتحةٌ؛ لأَنَّها أَخَفُّ الحركاتِ، وأَنْ وما في حيِّزها في محلِّ نصبٍ، أو جرٍّ بعد حذفِ حرفِ الجَرّ، وهي لامُ العِلَّة، والتَّقديرُ : لأن تَضِلَّ، أو إرادة أَنْ تَضِلَّ.