وفي متعلَّقِ هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أَنَّهُ فِعلٌ مضمرٌ دلَّ عليه الكلامُ السَّابق، إذا التَّقديرُ : فاسْتَشْهِدُوا رَجُلاً وامرأتين لئلا تَضِلَّ إِحداهما، ودلَّ على هذا الفعلِ قوله :﴿ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان ﴾، قاله الواحديُّ ولا حاجة إليه؛ لأَنَّ الرَّافع لرجُلٍ وامرأتين مُغنٍ عن تقدير شيءٍ آخر، وكذلك الخبرُ المقدَّرُ لقولك :« فَرَجُلٌ وامرأتان » إذ تقديرُ الأول : فَلْيَشهد رجلٌ، وتقديرُ الثاني : فرجلٌ وامرأتان يشهدُون؛ لأَنْ تَضِلَّ، وهذان التَّقديران هما الوجهُ الثَّاني والثَّالث من الثَّلاثةِ المذكورة. فإن قيل هل جُعِل ضلالُ إِحداهما علَّةً لتطلُّب الإِشهاد أو مراداً لله تعالى، على حسبِ التقديرين المذكورين أولاً؟ وقد أَجابَ سيبويه رحمه الله وغيرُه بأن الضلالَ لمَّا كان سبباً للإِذكار، والإِذكارُ مُسبِّباً عنه، وهم يُنَزِّلون كلَّ واحدٍ من السببِ والمُسَبَّب منزلةَ الآخرِ لالتباسهما، واتِّصالهما كانت إرادةُ الضَّلال المُسَبَّب عنه الإِذكارُ إرادةً للإِذكار. فكأنه قيل : إرادة أَنْ تُذَكِّر إِحداهما الأخرى إِنْ ضَلَّتْ، ونظيرُه قولُهم :« أَعْدَدْتُ الخشبةَ أَنْ يميلَ الحائِطُ فأدعمَه، وأعدْدتُ السَّلاح أن يجيء عدوٌّ فأدفعَه » فليس إعدادُك الخشبة؛ لأَنء يميلَ الحائطُ، ولا إعدادُك السلاح لأن يجيء العدو وإنما للإدغام إذا مال، وللدفع إذا جاء العدو، وهذا مِمَّا يعودُ إليه المعنى ويُهجَرُ فيه جانبُ اللفظ.
وقد ذهب الجرجانيُّ في هذه الآيةِ الكريمة إلى أَنَّ التقدير : مخافةَ أَنْ تَضِلَّ؛ وأنشد قول عمروٍ :[ الوافر ]
١٢٨٣-............................ | فَعَجَّلْنَا القِرَى أَنْ تَشْتِمُونَا |
وذهب الفرَّاء إلى أَن تقدير الآيةِ الكريمة :« كي تذكِّر إِحْدَاهُمَا الأخرى إِنْ ضَلَّت »، فلمَّا قُدِّم الجزاءُ اتَّصَل بما قبلَه ففُتِحَتْ « أَنْ »، قال : ومثلُه من الكلام :« إنه ليعجبُني أَنْ يسأل السَّائلُ فيُعْطى » معناه : إنه ليعجبني أَنْ يُعْطَى السَّائلُ إن سَأَلَ؛ لأَنَّه إنما يُعجِبُ الإِعطاءُ لا السؤالُ، فلمَّا قدَّموا السُّؤالَ على العطيَّة أصحبوه أن المفتوحة لينكشِفَ المعنى، فعنده « أنْ » في « أَنْ تَضِلَّ » للجزاءِ، إِلاَّ أَنَّهُ قُدِّم وفُتِح، وأصله التأخير.