ولهذه المذاهب موضع هو أليق بالكلام عليها.
ونقل ابن عطيَّة أنه مأخوذٌ من « قَسُطَ » بضمِّ السِّين نحو :« أَكْرَمَ » من « كَرُم ». وقيل : هو من القسط بالكسر وهو العدل، وهو مصدر لم يشتقَّ منه فعلٌ، وليس من الإقساط؛ لأنَّ أفعل لا يبنى من « الإِفْعَالِ ». وهذا كله بناء منهم على أنَّ الثلاثيَّ بمعنى الجوز والرُّباعيَّ بمعنى العدل.
ويحكى أنَّ سعيد بن جبيرٍ لمَّا سأله الظَّالم [ الحجَّاج ] بن يوسف : ما تقول فيَّ؟ فقال :« أقولُ إنّك قَاسِطٌ عَادِلٌ »، فلم يفطن له إلا هو، فقال : إنه جعلني جائراً كافراً، وتلا قوله تعالى :﴿ وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً ﴾ [ الجن : ١٥ ] ﴿ ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ [ الأنعام : ١ ].
وأمَّا إذا جعلناه مشتركاً بين عدل، وبين جار فالأمر واضحٌ قال ابن القطَّاع :« قَسَط، قُسُوطاً، وقِسْطاً : جار وعَدَل ضِدٌّ ». وحكى ابن السِّيد في كتاب :« الاقْتِضَابِ » له عن ابن السَّكِّيت في كتاب :« الأَضْدَادِ » عن أبي عبيدة :« قَسَطَ : جارَ، وقَسَط، [ عَدَل ]، وأقْسطَ بالألفِ عَدَلَ لا غير ». وقال أبو القاسم الرَّاغب الأصبهاني :« القِسْطُ أَنْ يأخذ قسط غيره، وذلك جورٌ، والإقساط أن يعطي قسطَ غيره، وذلك إنصافٌ، ولذلك يقول : قَسَط إذا جَارَ، وأقْسَط إذا عَدَل ».
والقسط : اسم، والإقساط مصدر يقال : أقسط فلانٌ في الحكم يقسط إقساطاً، إذا عدل، فهو مقسطٌ.
قال تعالى :﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين ﴾ [ المائدة : ٤٢ ] ويقال : هو قاسط إذا جار فقال تعالى :﴿ وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً ﴾ [ الجن : ١٥ ] ﴿ ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ [ الأنعام : ١ ]، وأمَّا إذا جعلنان مشتركاً بين عدل وبين جار فالأمر واضحٌ.
قال ابن القطَّاع : قَسَطَ قُسُوطاً، وقسطاً : جَارَ، وعَدَلَ ضدٌّ، وسيأتي لهذا مزيد بيانٍ في سورة النساء إن شاء الله تعالى.
قوله :﴿ عِندَ الله ﴾ ظرفٌ منصوبٌ ب « أَقْسَط »، أي في حكمه. وقوله :« وَأَقْوَمُ » إنَّما صحَّت الواو فيه؛ لأنه أفعل تفضيل، وأفعل التَّفضيل يصحُّ حملاً على فعل التَّعجُّب، وصحَّ فعل التَّعجُّب لجريانه مجرى الأسماء لجموده وعدم تصرُّفه.
و ﴿ وَأَقْومُ ﴾ يجوز أن يكون من « أَقَامَ » الرُّباعي المتعدِّي؛ لكنَّه حذف الهمزة الزَّائدة، ثمَّ أتى بهمزة [ أفعل ] كقوله تعالى :﴿ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى ﴾ [ الكهف : ١٢ ] فيكون المعنى : أثبت لإقامتكم الشهادة، ويجوز أن يكون من « قام » اللازم ويكون المعنى : ذلك أثبت لقيام الشَّهادة، وقامت الشهادة : ثبتت، قاله أبو البقاء.
قوله :﴿ لِلشَّهَادَةِ ﴾ متعلِّقٌ ب « أَقْوَم »، وهو مفعولٌ في المعنى، واللاَّم زائدةٌ ولا يجوز حذفها ونصب مجرورها بعد أفعل التَّفضيل إلاَّ لضرورة؛ كقوله :[ الطويل ]