﴿ إِنَّ رَحْمَةَ الله ﴾ [ آية : ٥٦ ]، وفي هود :﴿ رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ ﴾ [ آية : ٧٣ ]، وفي مريم :﴿ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ ﴾ [ آية : ٢ ]، وفي الرُّوم :﴿ فانظر إلى آثَارِ رَحْمَةِ الله ﴾ [ آية : ٥٠ ]، وفي الزخرف :﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ ﴾ [ آية : ٣٢ ].
فصل
في تعلّق هذه الآية بما قبلها، وجهان :
الأول : أنَّ عبد الله بن جحش قال : يَا رَسُولَ الله، هَبْ أنَّهُ لاَ عِقَابَ عَلَيْنَا فِيمَا فَعَلْنَا، فَهَلْ نَطْمَعُ مِنْهَ أُجْراً، وَثَوَاباً، فَنَطمع أن يكون سفرُنا هذا غزواً؛ فأنزل الله هذه الآية؛ لأنَّ عبد الله كان مؤمناً، ومهاجراً، وسبب هذه المقاتلة، كان مجاهداً.
الثاني : أنَّه تعالى أوجب الجهاد من قبل بقوله :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢١٦ ] وبين أن تركه سبب الوعيد أتبع ذلك بذكر من يقوم به فقال :﴿ إِنَّ الذين آمَنُواْ ﴾ ولا يكاد يوجد وعيدٌ إلاَّ ويعقبه وعد.
فصل في المراد بالرجاء
وفي هذا الرجاء قولان :
الأوَّل : عبارة عن ظن المنافع التي يتوقعها وأراد تعالى هنا : أنَّهم يظنُّونَ في ثَوَابِ اللهِ؛ لأن عبد الله بن جحشٍ ما كان قاطعاً بالفوز والثَّواب في عمله، بل كان يتوقَّعه، ويرجوه.
فإن قيل : لم جعل الوعد مطلقاً بالرَّجاء، ولم يقطع به، كما في سائر الآيات؟
فالجواب من وجوهٍ.
أحدها : أنَّ الثَّوابَ على الإيمان، والعمل غير واجبٍ عقلاً، بل بحكم الوعد فلذلك علَّقه بالرَّجاء.
وثانيها : هب أنَّه واجبٌ عقلاً، ولكنَّه تعلّق بأنه لا يكفر، وهذا الشَّرط مشكوكٌ لا متيقِّن، فلا جرم الرَّجاء، لا القطع.
وثالثها : أنَّ المذكور ها هنا هو الإيمان، والهجرة، والجهاد، ولا بدَّ للإنسان مع ذلك من سائر الأعمال، وهو أن يرجو أن يوفقه الله لها، كما وفَّقه لهذه الثَّلاثة، فلا جرم علقه على الرَّجاء.
ورابعها : ليس المراد من الآية أنَّ الله تعالى شكَّك العبد في هذه المغفرة، بل المراد وصفهم بأنَّهم يفارقون الدُّنيا مع الهجرة والجهاد، ومستقصرين أنفسهم في حقّ الله تعالى يرون أنّهم يعبدونه حقّ عبادته، ولم يقضوا ما يلزمهم في نصرة دينه، فيقدمون على الله مع الخوف والرَّجاء، كما قال :﴿ والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٦٠ ].
وأجاب القرطبيُّ عن هذا السُّؤال بوجهين آخرين :
الأول : أنَّ الإنسان لو بلغ في طاعة الله كلَّ مبلغٍ، لا يدري بماذا يختم له.
الثاني : لئلاّ يتّكل على عمله.
القول الثاني : أنَّ المراد من الرَّجاء القطع في أصل الثَّواب، والظَّن إنَّما دخل في كميّته وفي وقته، وفيه وجوه تقدَّمت في قوله تعالى :﴿ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ ﴾ [ البقرة : ٤٦ ].
وقوله :﴿ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، أي : إنَّ الله تعالى يحقِّق لهم رجاءهم، إذا ماتوا على الإيمان، والعمل الصَّالح.