قوله :﴿ عَنِ الخمر والميسر ﴾ لا بدّ فيه من حذف مضاف إذ السُّؤال عن ذاتي الخمر والميسر غير مرادٍ، والتَّقدير : عن حكم الخمر والميسر.
الخمر : هو المعتصر من العِنَبِ إذا غلى، وقذف بالزَّبد، ويطلق على ما غلى، وقذف بالزَّبد من غير ماء العنب مجازاً.
وفي تسميتها « خَمْراً » أربعة أقوال :
أشهرها : أنَّها سمِّيت بذلك؛ لأنها تخمر العقل، أي : تستره، ومنه : خمار المرأة لستره وجهها، والخمر : ما واراك من شجر، وغيره من وهدةٍ، وأكمة، والخامر هو الذي يكتم شهادته؛ [ و : خَامِري حضَاجِرُ، أتاك ما تُحَاذِرُ « يُضْرَبُ للأحمق، وحَضَاجِرُ : علمٌ للضبع، أي : استتر عن النَّاس، ودخل في خمار النَّاس، وغمارهم ].
قال :[ الوافر ]١٠٦٥- أَلاَ يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكَ سِيرا | فَقَدْ جَاوَزْتُمَا خَمَرَ الطَّرِيقِ |
أي : ما يستركما من شجرٍ وغيره، وقال العجَّاج يصف مسير جيش طاهر بن أبان :
[ الرجز ]
١٠٦٦-في لاَمِعِ العِقْبَانِ لاَ يَمْشِي الخَمَرْ... والثاني : لأنَّها تغطَّى حتّى تدرك وتشتدَّ، فهو من التَّغطية ومنه » خَمَّروا آنيتكم «.
والثالث :- قال ابن الأنباري من المخالطة - لأنَّها تخامر العقل، أي : تخالطه، يقال : خامره الدَّاء، أي : خالطه.
وأنشد لكثير :[ الطويل ]١٠٦٧- هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ | ........................... |
ويقال : خَامَرَ السّقام كبده. فهذه الاشتقاقات دالَّة على أن الخمر ما يكون ساتراً للعقل، كما سمِّيت مسكراً؛ لأنَّها تسكر العقل أي : تحجزه.
والرابع : لأنَّها تترك حتى تدرك، ومنه :» اخْتَمَرَ العَجِينُ « أي : بلغ إدراكه، وخمر الرَّأي، أي : تركه، حتَّى ظهر له فيه وجه الصَّواب، وهي أقوال متقاربةٌ. وعلى هذه الأقوال تكون الخمر في الأصل مصدراً مرارداً به اسم الفاعل واسم المفعول.
فصل
قال أبو حنيفة : الخمرُ : هو ما كان من عصير العنب وغيره.
حجّة أبي حنيفة : قوله تعالى :﴿ وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً ﴾ [ النحل : ٦٧ ] فمنَّ الله تعالى علينا باتخاذ السَّكر، والرِّزق الحسن؛ فوجب أن يكون مباحاً؛ لأنَّ المنَّة لا تكون إلاَّ بالمباح.
وروى ابن عبَّاس أنَّه - عليه السَّلام - أتى السِّقاية عام حجَّة الوداع، فاستند إليها وقال : اسقوني، فقال العبَّاس : لنسقينَّك ممَّا ننبذُهُ في بيوتنا؟ فقال :» مِمّا يُسْقَى النَّاسُ « فجاءه بقدح من نبيذ؛ فشمَّه فقطب وجهه وردَّه، فقال العبَّاس : يا رسول الله أفسدت على أهل مكَّة شرابهم. فقال :» رَدُّوا عَلَيَّ القَدَحَ « فردُّوه عليه؛ فدعا بماء زمزم؛ فصبّ عليه وشَرِبَ وقال :» إِذَا اغْتَلَمَتْ عَلَيْكُمْ هَذِهِ الأَشْرِبَة فَاقْطَعُوا نتنها بالمَاءِ «.
وجه الاستدلال به : أن التقطيب لا يكون إلاَّ من الشَّديد، ولأن المزج بالماء كان لقطع الشدَّة بالنَّصِّ، ولأنَّ اغتلام الشَّراب شدَّته، كاغتلام البعير سكره.
وأيضاً وردت عند الصَّحابة فيه آثارٌ؛ روي أنَّ عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - كتب إلى بعض عماله أن أرزاق المسلمين من الطِّلاء ما ذهب ثلثاه، وبقي ثلثه، ورأى أبو عبيدة، ومعاذٌ : شرب الطِّلاء على الثُّلث.