روى الضَّحَّاك عن عائشة - رضي الله عنها - : قالت : سألت رَسُولَ الله - ﷺ - ما حدَّث العبد به نفسهُ من شرٍّ كانت مُحاسبةُ الله - تعالى - عليه، فقال :« يا عائشة، هذه مُعاتَبةُ الله - عزّ وجلّ - العبد بما يُصيبُهُ من الحُمَّى والنّكبة، حتَّى الشَّوكة والبضاعة يضعُهَا في كُمِّهِ فيفقدها فيرُوعُ لها فيجِدُها في ضِبْنه حتَّى إنَّ المؤمن ليخرُجُ من ذُنُوبه؛ كما يخرج التَّبرُ الأحمرُ من الكِبر. »
وعن أنس بن مالكٍ، عن رسول الله - ﷺ - أنه قال :« إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِه الخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ العُقُوبَةَ في الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِه الشَّرَّ أَمْسَك عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوافِيَهُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ».
فإن قيل : كيف تحصل المُؤَاخذةُ في الدُّنيا مع قوله :﴿ اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ [ غافر : ١٧ ].
قلنا : هذا خاصٌّ، فيُقدَّمُ على ذلك العامِّ.
الخامس : أنه - تعالى - قال :« يُحَاسِبْكُم » ولم يَقُل « يُؤَاخِذْكُم » وقد ذكرنا في معنى كونه حسيباً ومُحَاسباً وجوهاً كثيرة، ومن جملتها كونه عالماً بها، فيرجعُ معنى الآية إلى كونه عالماً بكُلِّ ما في الضَّمائر والسَّرائر.
والمرادُ من المُحاسبة : الإِخبار والتَّعريفُ.
ومعنى الآية : وَإِنْ تُبْدُوا مَافِي أَنْفُسِكُمْ فتعملُوا به أَوْ تُخْفُوهُ ممَّا أضمرتم ونويتم، يحاسبكم به الله، ويُخبركم به، ويُعرفكم إيَّاه ثم يغفر للمؤمنين إظهاراً لفضله، ويعذِّب الكافرين إظهاراً لعدلِهِ.
وهذا معنى قول الضَّحَّاك، ويُروَى عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -؛ يدلُّ عليه أَنَّهُ قال :﴿ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله ﴾ ولم يَقُلْ :« يُؤَاخِذْكُمْ »، والمُحاسبةُ غير المُؤَاخذة.
ورُوِي عن ابن عبَّاسٍ أنه - تعالى - إذا جمع الخلائق يُخْبَرهم بما كان في نفوسهم، فالمُؤْمِنُ يُخبِرهُ ويعفو عنه، وأهل الذُّنُوب يُخبرهم بما أَخفوا من التَّكذِيب والذَّنب روى صفوان بن محرز قال : كُنتُ آخِذاً بيد عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - فأتاهُ رجلٌ، فقال : كيف سمعتَ رسُول الله - ﷺ - يقول في النَّجوى؟ قال : قال رسول الله - ﷺ - :« إِنَّ اللهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ يَسْتُرُه من النَّاسِ، فيقُولُ : أي عَبْدِي، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا وَكَذَا؟ فيقولُ : نَعَمْ أي ربِّ، ثم يقُول : أي رَبِّ، حتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى في نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ، قال : فَإِنِّي قد سترتُها عليك في الدُّنيا وقد غَفَرْتُهَا اليَوْمَ، ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ [ بِيَمِينِهِ ]، وأَمَّا الكافِرُ والمُنَافِقُ فَيقُولُ الأَشهادُ هؤلاءِ الَّذِين كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ».