وقال الكلبيُّ : هُم أهلُ سفينةِ نُوح، لما غرقت الأرض بالطوفانِ، لم يَبْقَ إلاَّ أَهْلُ السفينة على الحق، والدِّين الصَّحيحن ثم اختلفُوا بعد ذلك؛ وهذا مما ثَبَتَ بالتَّواتر.
وقال مُجاهدٌ : أراد آدَمَ وحده، وكان أُمَّةً واحدة، وسَمَّى الواحد بلفظ الجمع؛ لأَنَّهُ أَصلُ النّسل، وأبُو البشر، وخلق اللَّهُ منه حَوَّاءَ، ونشر منها الناس.
قال قتادةُ وعكرمةُ : كان الناسُ مِنْ وقت آدمَ إلى مبعث نُوح، وكان بينهما عشرةُ قرون كُلُّهم على شريعةٍ واحدةٍ من الحق، والهُدَى، ثم اختلفُوا في زمن نوح - عليه السلام - فبعث اللَّهُ إليهم نُوحاً، وكان أَوَّل بني بُعثَ.
وحَكَى القرطبيُّ : قال ابنُ أبي خيثمة : منذ خلق اللَّهُ آدم - عليه السلام - إلى أن بعث اللَّه محمداً - ﷺ - خمسةُ آلافِ سنة وثمانمائة سنة، وقيل : أكثر من ذلك، وكان بينه وبين نُوحٍ ألفُ سنة ومائتا سنة، وعاش آدم تسعمائة وستين سنة، وكان الناس في زمانه أمةً واحدة، على مِلَّةٍ واحدة متمسكين بالدِّين، تُصافحُهم الملائكة، ودَامُوا على ذلك إلى أَن رُفِعَ إدريس - عليه السلام - فاختلفُوا.
قال : وهذا فيه نظر؛ لأَنَّ إدريس بعد نُوحٍ على الصحيح.
وقيل : كان العربُ على دين إبراهيم إلى أَنْ غيّره عمرو بن لُحَيٍّ.
وروى أبو العالية، عن أُبِيٍّ بن كعبٍ قال :« كان النَّاسُ حين عُرِضُوا وأُخرِجُوا مِنْ ظَهْرِ آدَمَ، وأَقرُّوا أُمَّةً واحدة مُسْلِمين كلهم، ولم يكُونُوا أُمَّةً وَاحِدَةً قَطّ غيرَ ذلك اليومِ، ثم اختَلَفُوا آدَمَ.
القول الثاني : أَنَّهُم كانُوا أُمَّةً واحدة في الكُفر، وهو قولُ ابنِ عَبَّاسٍ، وعطاء، والحسن.
وقال الحسن وعطاء : كان الناس من وَقْتِ وَفَاةِ آدمَ إلى مبعثِ نُوحٍ أُمَّةً واحدة على مِلَّةِ الكُفرِ؛ أَمثَال البَهَائِم، فَبَعثَ اللَّه إبراهيم - عليه السَّلام - وغيرُ من النبيين، واستدلُّوا بقوله :﴿ فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ﴾ وهو لاَ يَليقُ إلا بذلك.
وجوابه ما بينا : أَنَّ هذا لا يليقُ بضده، ثم اختلف القائلُون بهذا القول : مَتَى كانوا مُتّفقين على الكُفر على ما قَدَّمنا ثُمَّ سأَلُوا أَنفسهم سُؤالاً وقالوا : أليس فيهم مَنْ كان مُسْلماً كهابيل، وشيث، وإدريس.
وأجابوا : بِأنَّ الغالب كان هو الكُفْر، والحُكْمُ للغالب، ولا يعتدُّ بالقليل في الكثير كما لا يعتدُّ بالشعير القليل في البر الكثير، فقد يقال : دار الإسلام، وإِنْ كان فيها غيرُ المسلمين، ودارُ الحرب وإن كان فيها مُسلمون.
الثالث : قال أبو مُسلمٍ : كانوا أُمَّةً واحدة في التمسُّك بالشرائع العقلية، وهي الاعترافُ بوجود الصانع، وصِفاتِهِ، والاشتغالُ بخدمته، وشُكْرِ نعمه، والاجتناب عن القبائح العقليَّة كالظُّلم، والكذب، والجهل، والعبث، وأمثالها.
واحتجَّ القاضي على صِحَّةِ قوله : بِأَنَّ لفظ النَّبيين يفيدُ العُمُومَ والاستغراقَ، وحرف » الفاء « يُفيدُ التَّراخي، فقوله ﴿ فَبَعَثَ الله النبيين ﴾ يفيد أنَّ بعثةَ الأنبياء كانت مُتأخرة عن كون الناس أُمَّةً واحدة، فتلك الواحدةُ المتقدمةُ على بعثة جميع الشرائع، لا بُدَّ وأَنْ تكون واحدة في شرعة غير مُسْتفَادٍ من الأَنبياء فواجب أن تكون في شريعة مستفادة من العقل وذلك ما بَيَّنَّاهُ، وأيضاً فالعلم بحسن شُكر المُنْعِم، وطاعة الخالق، والإحسان إلى الخَلْقِ، العَدلُ؛ مُشْتَركٌ فيه بين الكُلّ، والعِلْمُ يُقبح الكذب، والظِّلم، والجهْل، والعبث، وأمثالها مشترك فيه بين الكل، فالأظهر أَنَّ الناس كانُوا في أَوَّل الأمر على ذلك، ثم اختلفُوا بعد ذلك؛ لأَسباب منفصلة، ثم قال : فإنْ قيل : أليس أوَّل الإسلام آدَم - ﷺ - مع أولاده كانوا مُجتمعين على التَّمسك بالشرائع العقلية أَوَّلاً، ثم إِنَّ اللَّهَ تعالى بعثهُ بعد ذلك إلى أولاده، ويُحْتَملُ أَنْ صار شرعُهُ مندرِساً، بعد ذلك، ثم رجع الناسُ إلى الشرائعِ العقلية؟
قال ابنُ الخطيب : وهذا القولُ لا يصحُّ إلاَّ بعد تحسين العقل، وتقبيحه، والكلام فيه مشهور.