الثالث : أنَّ المقصود من هذا الدُّعاء إظهار التَّضرُّع إلى الله تعالى لا طلب الفعل؛ لأن الدَّاعي كثيراً ما يدعو بما يقطع بأنَّ الله تعالى يفعله، سواءٌ دعا أو لم يدع؛ قال :﴿ رَبِّ احكم بالحق ﴾ [ الأنبياء : ١١٢ ]، وقال :﴿ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ ﴾ [ آل عمران : ١٩٤ ]، وقالت الملائكة :﴿ فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم ﴾ [ غافر : ٧ ] فكذا ههنا.
الرابع : أن مؤاخذة النَّاسي ممتنعةٌ عقلاً، لأنَّ الإنسان إذا علم أنه بعد النِّسيان يكون مؤاخذاً، فإنه بخوف المؤاخذة يستديم الذكر، فحينئذٍ لا يصدر عنه، إلاَّ أنَّ استدامة ذلك الذِّكر يشقُّ على النَّفس، فلمَّا جاز ذلك في العقول، حسن طلب المغفرة منه.
الخامس : أن الَّذين جوَّزوا تكليف ما لا يُطاق بهذه الآية، فقالوا : النَّاسي غير قادرٍ على الاحتراز عن الفعل، فلولا أنَّه جائزٌ عقلاً أن يعاقبه الله عليه، لما طلب بالدُّعاء ترك المؤاخذة به.
القول الثاني : أن المراد بالنِّسيان : التَّرك؛ قال الله تعالى :﴿ نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ ﴾ [ التوبة : ٦٧ ]، أي : تركوا العمل لله فترك أن يثيبهم، ويقول الرَّجل لصاحبه « لاَ تَنْسِني من عَطِيَّتِكَ »، أي : لا تتركني، فالمراد بهذا النِّسيان أن يترك الفعل لتأويل فاسدٍ، والمراد بالخطأ : أن يفعل الفعل لتأويل فاسدٍ.
قوله :﴿ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً ﴾.
الإصر : في الأصل : الثِّقل والشِّدَّة؛ قال النابغة :[ البسيط ]

١٣١٠- يَا مَانِعَ الضَّيْمِ أَنْ يَغْشَى سَرَاتَهُمُ وَالحَامِلَ الإِصْرِ عَنْهُمْ بَعْدَمَا غَرِقُوا
وأُطلق على العهد والميثاق لثقلهما؛ كقوله تعالى :﴿ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي ﴾ [ آل عمران : ٨١ ] أي : عهدي، ﴿ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ ﴾ [ الأعراف : ١٥٧ ] أي : التكاليف الشاقة ثم يطلق على كلِّ ما يثقل، حتى يروى عن بعضهم أنه فسَّر الإصر هنا بشماتة الأعداء؛ وأنشد :[ الكامل ]
١٣١١- أَشْمَتَّ بِيَ الأَعْدَاءَ حِينَ هَجَرْتَنِي وَالمَوْتُ دُونَ شَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ
ويقال : الإصر أيضاً : العطف والقرابة، يقال :« [ مَا ] يَأْصِرُني عليه آصِرَةٌ » أي : ما يعطفني عليه قرابةٌ ولا رحمٌ؛ وأنشد للحطيئة :[ مجزوء الكامل ]
١٣١٢- عَطَفُوا عَلَيَّ بِغَيْرِ آ صِرَةٍ فَقَدْ عَظُمَ الأَوَاصِرْ
ويقال : ما يأصرني عليه آصرةٌ أي : رحمٌ وقرابة، وإنما سمِّي العطف إصراً؛ لأن من عطفت عليه، ثقل على قلبك كلُّ ما يصل إليه من المكاره.
وقيل : الإصر : الأمر الذي تربط به الأشياء؛ ومنه « الإصَارُ » للحبل الشديد الذي تشدُّ به الأحمال، يقال : أصَرَ يَأْصِرُ أَصْراً بفتح الهمزة، فأما بكسرها، فهو اسمٌ، ويقال بضمِّها أيضاً، وقد قرىء به شاذًّا.
وقرأ أُبيّ :« رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْ عَلَيْنَا » بتشديد الميم.
قال الزَّمخشريُّ :« فإن قلت : أيُّ فرقٍ بين هذه التَّشديدة والتي في » وَلاَ تُحَمِّلْنَا « ؟
قلت : هذه للمبالغة في حمله عليه، وتلك لنقل حمله من مفعولٍ واحدٍ إلى مفعولين »
انتهى.
يعني : أن التَّضعيف في الأوَّل للمبالغة، ولذلك لم يتعدَّ إلاَّ لمفعولٍ واحدٍ، وفي الثانية للتَّعدية، ولذلك تعدَّى إلى اثنين : أوَّلهما :« نَا »، و الثاني : ما لا طاقة لنا به.


الصفحة التالية
Icon