وقيل : هو الفرقة والقطيعة.
فإن قيل : لم خصَّ الآية الأولى بالحمل، فقال « لا تَحْمِلْ عَلَيْنا » وهذه الآية بالتَّحميل؟
فالجواب : أن الشَّاقَّ يمكن حمله، أمَّا ما لا يكون مقدوراً، فلا يمكن حمله، فالحاصل فيما لا يطاق هو التَّحميل فقط، فإن التَّحمُّل غير ممكنٍ.
وأمَّا الشاقُّ : فالحمل، والتَّحميل فيه ممكنان، فلهذا السَّبب خصَّ الآية الأخيرة بالتَّحميل.
فإن قيل : ما الفائدة في حكاية هذه الأدعية بلفظ الجمع في قوله :﴿ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾، ولفظ الإفراد أكثر تذلُّلاً وخضوعاً من التَّلفُّظ بنون الجمع.
فالجواب : أن قبول الدُّعاء عند الاجتماع أكثر، وذلك لأن للهمم تأثيراتٍ، فإذا اجتمعت الأرواح والدَّواعي على شيء واحدٍ، كان حصوله أكمل.

فصل


استدلُّوا بهذه الآية الكريمة على جواز التَّكليف بما لا يطاق، قالوا : إذ لو لم يكن جائزاً، لما حسن طلب دَفْعِهِ بالدُّعاء من الله تعالى، وأجاب المعتزلة بوجوهٍ :
الأول : المراد بالآية ما يشقُّ فعله مشقَّةً عظيمةً؛ كما يقول الرجل : لا أستطيع أن أنظر إلى فلانٍ؛ إذا كان مستثقلاً له؛ قال الشاعر :[ الرجز ]
١٣١٤- إِنَّكَ إِنْ كَلَّفْتَنِي مَا لَمْ أُطِقْ سَاءَكَ مَا سَرَّكَ مِنِّي مِنْ خُلُقْ
وقال - ﷺ - في المملوك :« لَهُ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ، ولاَ يُكَلَّفُ مِنَ العَمَلِ مَا لاَ يُطِيقُ » أي : ما يشقُّ عليه، وقال - ﷺ - في المريض « يصلِّي وهو جالسٌ، فإن لم يَسْتَطِعْ، فَعَلَى جَنْبٍ »، فقوله :« فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ » ليس المراد به : عدم القوَّة على الجلوس، بل كلُّ الفقهاء يقولون : المراد منه : إذا كان يلحقه في الجلوس مشقَّةٌ شديدةٌ؛ وقال تعالى :﴿ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع ﴾ [ هود : ٢٠ ]، أي : كان يشقُّ عليهم ذلك.
الثاني : أنه تعالى لم يقل :« لاَ تُكَلِّفْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ » بل قال :﴿ لاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ والتَّحميل : هو أن يضع عليه ما لا طاقة له بتحمُّله، فيكون المراد منه العذاب، والمعنى : لا تحملنا عذابك الذي لا نطيق احتماله، فلو حملنا الآية على ذلك، كان قوله :« لاَ تُحَمِّلْنَا » حقيقةً فيه، ولو حملناه على التكليف، كان قوله :« لاَ تُحَمِّلْنَا » مجازاً فيه، فكان الأوَّل أولى.
الثالث : هب أنَّهم سألوا الله تعالى ألاَّ يكلِّفهم ما لا قدرة لهم عليه، لكن ذلك لا يدلُّ على جواز أن يفعل خلافه؛ لأنَّه لو دلَّ على ذلك، لدلَّ قوله :﴿ رَبِّ احكم بالحق ﴾ [ الأنبياء : ١١٢ ] على جواز أن يحكم بالباطل، وكذلك قول إبراهيم - ﷺ - :﴿ وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ﴾ [ الشعراء : ٨٧ ] على جواز خزي الأنبياء.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين ﴾ [ الأحزاب : ١ ]، وقوله :﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾


الصفحة التالية
Icon