وكأن الأخفش لم يطلع على أنها قراءة فقال :« لو كُسِرَتِ الميمُ؛ لالتقاء الساكنين - فقيل :» المِ اللهُ « - لجاز ».
قال الزّجّاج : وهذا غلط من أبي الحسن، لأن قبل الميم ياءٌ مكسوراً ما قبلها فحقها الفتح، لالتقاء الساكنين، وذلك لثقل الكسر مع الياء. وهذا - وإن كان كما قال - إلا أن الفارسيَّ انتصر لأبي الحَسَن، ورَدَّ على أبي إسحاق رَدَّة فقال :« كَسْر الميم لو ورد بذلك سماع لم يدفعه قياس، بل كان يُثْبِتُهُ ويُقَوِّيه -؛ لأن الأصل في التحريك - لالتقاء الساكنين - الكسر، وإنما يُبْدَل إلى غير ذلك لما يعرض من علَّة وكراهة، فإذا جاء الشيء على بابه فلا وَجْهَ لردِّه، ولا مساغ لدَفْعِه، وقول أبي إسحاق؛ إن ما قبل الميم ياءً مكسوراً ما قبلها، فحقها الفتح منقوض بقولهم : جَيْرِ، حيث حَرَّك الساكن - بعد الياء - بالكسر، كما حُرك بعدها بالفتح في أيْنَ، ويدل على جواز التحريك لالتقاء الساكنين بالكسر - فيما كان قبله ياء، - جواز تحريكه بالضم نحو قولهم : حَيْثُ، وإذا جاز الضم كان الكسر أجْوَزَ وأسْهَلَ ».

فصل في بيان سبب النزول


في سبب نزول هذه الآية قولان :
الأول : أنها نزلت في اليهود، وقد ذكرناه في تفسير قوله تعالى :﴿ الم ذَلِكَ الكتاب ﴾ [ البقرة : ١، ٢ ].
الثاني : أنها من أولها إلى آية المباهلة في نصارى نجران.
قال الكلبي، والربيعُ بنُ أنس - وهو قول محمد بن إسحاقَ- : قدم على رسول الله ﷺ وفد نجران - ستون راكباً - فيهم أربة عشر رجلاً من أشرافهم، وثلاثة منهم كانوا أكابر القوم، أحدهم أميرهم، وصاحب مشورتهم، يقال له : العاقب، واسمه عبد المسيح، والثاني مشيرهم ووزيرهم، وكانوا يقولون له : السيد، واسمه الأيهم، والثالث حبرهم وأسقفهم، وصاحب مِدْراسهم، يقال له : أبو حارثة بن علقمة - أحد بني بكر بن وائل - وكان ملوك الروم قد أكرموه وشرَّفوه، وموَّلوه؛ لِما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم، فلما قدموا من « نجران » ركب أبو حارثةَ بغلتَه، وكان إلى جنبه أخوه كُرْزُ بنُ علقمةَ، فبينما بغلة ابي حارثةَ تسير إذ عَثَرَتْ، فقال كُرز : تَعْساً للأبعد - يريد رسولَ الله ﷺ - فقال أبو حارثة : بل تَعِسَتْ أمُّك، فقال : ولِمَ يا أخي؟ فقال : إنه - واللهِ - النبيُّ الذي كنا ننتظره، فقال له أخوه كرز : فما يمنعك عنه وأنت تعلم هذا؟
قال : لأن هؤلاء الملوك أعطَوْنَا أموالاً كثيرةً، وأكرمونا، فلو آمنَّا بمحمد لأخذوا مِنَّ كُلَّ هذه الأشياءِ، فوقع ذلك في قَلْبِ أخيه كُرْز، وكان يُضْمِره إلى أن أسْلم؛ فكان يُحَدِّثُ بذلك، ثم دخلوا مسجدَ رسول الله ﷺ حين صلى العصر - عليهم ثياب الحِبراتِ جبب وأرْدِيَةٌ-، وقد حانت صلاتهم، فقاموا للصلاة [ العاقب والسيد والحبر ] في مسجد رسول الله ﷺ، فقال رسول الله : دعوهم، فصلوا إلى المشرق، ثم تكلم أولئك الثلاثة مع رسول الله ﷺ على اختلاف من أديانهم - فتارة يقولون : عيسى هو الله، وتارةً يقولون : هو ابنُ الله، وتارة يقولون : ثالث ثلاثة، ويحتجون على قولهم : هو الله بأنه كان يُحْيي الموتَى، ويُبْرئ الأسقامَ ويُخْبِر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه، فيطير، ويحتجون على قولهم بأنه ابن الله بأنه لم يكن له أبٌ يُعْلَم، ويحتجون على قولهم : ثالث ثلاثة بقوله تعالى :﴿ فَعَلْنَا ﴾، قلنا، ولو كان واحداص لقال : فعلتُ، قلتُ، فقال رسول الله ﷺ :


الصفحة التالية
Icon