التاسع : أن العامل فيه قوله :﴿ فَأَخَذَهُمُ الله ﴾، أي : فأخذهم الله أخْذاً كأخذه آل فرعون، والمصدر تارةً يضاف إلى الفاعل، وتارةً إلى المفعول، والمعنى : كَدَأبِ الله في آل فرعون، ونظيره قوله تعالى :﴿ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله ﴾ [ البقرة : ١٦٥ ] أي : كَحُبِّهم لله، وقال :﴿ سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ ﴾ [ الإسراء : ٧٧ ] والمعنى : سنتي فيمن أرسلنا قبلك، وهذا مردود؛ فإن ما بعد الفاء العاطفة لا يعمل فيما قبلها، لا يجوز قمت زيداً فضربت وأما زيداً فاضرب، فقد تقدم الكلام عليه في البقرة.
وقد حكى بعضُ النحاةِ - عن الكوفيين - أنهم يجيزون تقديم المعمول على حرف العطف، فعلى هذا يجوز هذا القول، وفي كلام الزمخشريِّ سهو؛ فإنه قال : ويجوز أن ينتصب محلُّ الكاف ب « لَنْ تُغْنِيَ » أو ب « خَالِدُونَ »، [ أي : لم تُغنِ عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك، أو هم فيها خالدون كما يُخَلَّدُون ].
وليس في لفظ الآية الكريمة ﴿ خَالِدُونَ ﴾، إنما نظم الآية ﴿ وأولئك هُمْ وَقُودُ النار ﴾، ويبعد أن يقال : أراد « خَالِدُون » مُقَدَّراً، يدل عليه السياق، اللهم إلا إن فسرنا الدأبَ باللُّبْث والدوام وطول البقاء.
وقال القفَّالُ :« يحتمل أن تكون الآية جامعة للعادة المضافة إلى الله تعالى، والعادة المضافة إلى الكفار، كأنه قيل : إن عادة هؤلاء الكفار في إيذاء محمد ﷺ كعادة من قبلهم في إيذاء رُسُلِهِم وعادتنا أيضاً في إهلاك الكفارِ، كحعادتنا في إهلاك أولئك الكفار المتقدمين، والمقصود - على جميع التقديراتِ - نصر النبي ﷺ على إيذاء الكفار، وبشارته بأن الله سينتقم منهم ».
الدأب : العادة، يقال : دأب، يَدْأبُ، اي : واظب، ولازم، ومنه ﴿ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً ﴾ [ يوسف : ٤٧ ]، أي : مداومة.
وقال امرؤ القيس :[ الطويل ]
١٣٤٧... - كَدَأبكَ مِنْ أمِّ الْحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا
وَجَارَتِهَا أمِّ الرَّبَابِ بِمَاسَلِ... وقال زُهير :[ الطويل ]
١٣٤٨ - لأرْتَحِلَنّ بِالْفَجْرِ ثُمَّ لأدْأبَنّْ... إلَى اللَّيْلِ إلاَّ أنْ يُعَرِّجَنِي طِفْلُ
وقال الواحديُّ :« الدأب : الاجتهاد والتعب، يقال : صار فلان يومه كله يَدْأب فيه، فهو دائب، أي : اجتهج في سَيْرِه، هذا أصله في اللغة، ثم [ يصير ] الدأب عبارة عن الحال والشأن والأمر والعادة؛ لاشتمال العمل والجهد على هذا كله ».
وكذا قال الزمخشريُّ، قال :« مصدر دأب في العمل إذا كَدَح فيه، فوُضِع مَوْضِعَ ما عليه الإنسان من شأنه وحاله ».
ويقال : دأَب، ودأْب - بفتح الهمزة وسكونها - وهما لغتان في المصدر كالضأن والضأَن وكالمَعْز والمَعَز وقرأ حفص :﴿ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً ﴾ بالفتح.
قال الفرَّاء :« والعرب تثقل ما كان ثانيه من حروف الحلق كالنَّعْل والنَّعَل، والنَّهْر والنَّهَر، والشَّأْم والشَّأَم.
وأنشد :[ البسيط ]
١٣٤٩ - قَدْ سَارَ شَرْقِيُّهُمْ حَتَّى أتَوْا سَبَأ... وَانْسَاحَ غَرْبِيُّهُمْ حَتَّى هَوى الشَّأَمَا
﴿ والذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ يجوز أن يَكُونَ مجروراً نسقاً على ﴿ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾، وأن يكونَ مرفوعاً على الابتداء، والخبر قوله - بعد ذلك - ﴿ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله ﴾، وهذان الاحتمالان جائزان مطلقاً، وخص أبو البقاء جواز الرفع بكون الكافِ في محل رفع، فقال :» فعلى هذا - أي : على كونها مرفوعة المحل؛ خبراً لمبتدأ مضمر - يجوز في ﴿ والذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ مبتدأ، و « كَذَّبُوا » خبره «.