فهذه ثلاثة أوجهٍ مرتبة على الوجهِ الخامسِ، فتصير ثمانية أوجهٍ في قراءة نافع. أما قراءة الباقين ففيها أوجه :
أحدها : أنها كقراءة الخطاب، فكل ما قيل في المراد به الخطابُ هناك قيل به هنا، ولكنه جاء على باب الالتفاتِ من خطاب إلى غيبةٍ.
الثاني : في أن الخطاب في « لَكُمْ » للمؤمنين، والضمير المرفوع في « يَرَوْنَهُم » للكفار، والمنصوب والمجرور للمسلمين، والمعنى : يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المؤمنين - ستمائة ونيفاً وعشرين - أراهم الله - مع قتلهم - إياهم ضعفهم؛ ليهابوهم، ويجبنوا عنهم.
الثالث : أن الخطاب في « لَكُم » للمؤمنين - أيضاً - والضمير المرفوع في « يَرَوْنَهُم » للكفار، والمنصوب للمسلمين، والمجرور للمشركين، أي : يرى المشركون [ المؤمنين ] مثلي عدد المشركين أراهم الله المؤمنين أضعافهم؛ لما تقدم في الوجه قبله.
الرابع : أن يعود الضميرُ المرفوعُ في « يَرَوْنَهُم » على الفئة الكافرةِ؛ لأنها جمع في المعنى، والضمير المنصوب والمجرور على ما تقدم من احتمال عودهما على الكافرين، أو [ على ] المسلمين، أو أحدهما لأحدهم.
والذي تقوى في هذه الآيةِ - من جميع الوجوه المتقدمةِ - من حيث المعنى أن يكون مدارُ الآيةِ على تقليل المسلمين، وتكثير الكافرين؛ لأن مقصود الآية ومساقها للدلالةِ على قدرةِ الله الباهرةِ، وتأييده بالنصر لعباده المؤمنين مع قلة عددهم، وخُذْلان الكافرين مع كَثْرةِ عددهم وتحزبهم لنعلم أن النصر كله من عند الله، وليس سببه كثرتكم وقلةَ عدوِّكم، بل سببه ما فعله الله تعالى من إلقاء الرعب في قلوب أعدائكم، ويؤيده قوله بعد ذلك :﴿ والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ ﴾ وقال في موضع آخر :﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً ﴾ [ التوبة : ٢٥ ].
وقال أبو شامة - بَعْدَ ذِكر هذا المعنى وتقويته- : فالهاء في « يَرَوْنَهُمْ » للكفار، سواء قُرِئ بالغيبة أم بالخطاب، والهاء في « مِثلَيْهم » للمسلمين.
فإن قلت : إن كان المراد هذا فهلاَّ قيل : يَرَونَهُمْ ثلاثةَ أمثالهم، فكان أبلغ في الآية، وهي نَصْر القليل على هذا الكثير، والعدة كانت كذلك أو أكثر؟
قلت : أخبر عن الواقع، وكان آية أخرى مضمومة إلى آيةِ البصر، وهي تقليل الكفارِ في أعين المسلمين وقللوا إلى حد وعد المسلمون النصر عليهم فيه، وهو أن الواحد من المسلمين يَغْلِب الاثنين، فلم تكن حاجة إلى التقليل بأكثر من هذا، وفيه فائدةُ وقوع ما ضَمِنَ لهم من النصر فيه انتهى.
قال شهاب الدين :« وإلى هذا المعنى ذهب الفراء، أعني أنهم يرونهم ثلاثةَ أمثالهم فإنه قال : مثليهم : ثلاثة أمثالهم، كقول القائل : عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها ».
وغلطة أبو إسحاقَ - في هذا - وقال : مِثْل الشيء : ما ساواه، ومثلاه [ ما ساواه ] مرتين.


الصفحة التالية
Icon