« اجْتَنِبُوا الخَمْرَ فَإِنَّها أُمُّ الخَبَائِثِ ». ويصدر عن الشَّارب المخاصمة، والمشاتمة وقول الفحش والزُّور.
وأما الإثم الكبير في الميسر، فإنَّه يفضي إلى العداوة أيضاً لما يجري بينهم من الشَّتم، والمنازعة؛ لأنَّه أكل مال بالباطل، وذلك يورث العداوة؛ لأنَّ صاحبه إذا أخذ ماله مجَّاناً؛ أبغضه جدّاً، وهو يشغل عن ذكر الله، وعن الصَّلاة أيضاً.
وأمَّا المنافع المذكورة فيهما، فمنافع الخمر أنَّهم كانوا يتغالون بها إذا جلبوها من النَّواحي، وكان المشتري، إذا ترك المماكسة في الثَّمن؛ كانوا يعدُّون ذلك فضيلةً، ومكرمةً، وكانت تكثر أرباحهم بذلك السَّبب، ومنها أنَّها تقوِّي الضَّعيف، وتهضم الطَّعام، وتعين على الباءة وتسلي المحزون، وتشجِّع الجبان، وتُسخي البخيل، وتصفي اللَّون وتُنعش الحرارة الغريزيَّة، وتزيد من الهمَّة، والاستعلاء. ومن منافع الميسر : التَّوسعة على ذوي الحاجات؛ لأنَّ من قمر لم يأكل من الجزور شيئاً وإنما يفرّقه في المحتاجين؛ وذكر الواقديُّ أنَّ الواحد كان ربَّما يحصل له في المجلس الواحد مائة بعيرٍ، فيحصل له مالٌ من غير كدٍّ، ولا تعبٍ، ثم يصرفه إلى المحتاجين، فيكتسب فيه الثَّناء، والمدح، وكانوا يشترون الجزور، ويضربون سهامهم، فمن خرج سهمه؛ أخذ نصيبه من اللَّحم، ولا يكون عليه شيء من الثَّمن، ومن بقي سهمه آخراً، كان عليه ثمن الجزور كلِّه، ولا يكون له من اللَّحم شيءٌ.
قوله تعالى :﴿ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ﴾ قرأ أُبَيّ :« أقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِمَا ».
وإثمهما ونفعهما مصدران مضافان إلى الفاعل، لأنَّ الخمر والميسر سببان فيهما، فهما فاعلان، ويجوز أن تكون الإضافة باعتبار أنهما محلُّهما. وقوله :﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ ﴾ [ البقرة : ٢١٥ ] قد تقدَّم الكلام عليه. وقرأ أبو عمرو :« قُلِ العَفْوُ » رفعاً والباقون نصباً. فالرَّفع على أنَّ « مَا » استفهاميةٌ، و « ذَا » موصولةٌ، فوقع جوابها مرفوعاً خبراً لمبتدأ محذوفٍ، مناسبةً بين الجواب والسُّؤال والتَّقدير : إنفاقكم العفو. والنَّصيب على أنَّهما بمنزلةٍ واحدةٍ، فيكون مفعولاً مقدّماً، تقديره : أيَّ شيءٍ ينفقون؟ فوقع جوابها منصوباً بفعل مقدَّرٍ للمناسبة أيضاً، والتَّقدير : أنفقوا العفو. وهذا هو الأحسن، أعني أن يعتقد في حال الرَّفع كون « ذا » موصولةً، وفي حال النَّصب كونها ملغاةٌ. وفي غير الأحسن يجوز أن يقال بكونها ملغاةً مع رفع جوابها، وموصولةً مع نصبه. وقد تقدم الكلام على مستوفى وإنما اختصرت القول هنا؛ لأني قد استوفيت الكلام عليها عند قوله تعالى :﴿ مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً ﴾ [ البقرة : ٢٦ ].

فصل


اعلم أنَّ هذا السُّؤال، قد تقدَّم، وأجيب بذكر المصرف، وهنا أجيب بذكر الكميَّة.
قال الواحدي رحمه الله : أصل العفو في اللُّغة الزِّيادة، قال الله تعالى :﴿ خُذِ العفو ﴾ [ الأعراف : ١٩٩ ]، أي : الزِّيادة وقال :﴿ حتى عَفَوْاْ ﴾ [ الأعراف : ٩٥ ].
وقال القفَّال : العفو ما سهل وتيسّر ممَّا فضل عن الكفاية، وهو قول قتادة، وعطاء، والسُّدِّي، وكانت الصَّحابة يكتسبون المال، ويمسكون قدر النَّفقة، ويتصدَّقون بالفضل.


الصفحة التالية
Icon