فصل


كيفية النَّظم أنه - تعالى - لما عدَّد نِعَم الدنيا بيَّن - هنا - أن منافع الآخرة خيرٌ منها كما قال في آية أخرى :﴿ والآخرة خَيْرٌ وأبقى ﴾ [ الأعلى : ١٧ ] ؛ لأن نعم الدنيا مشوبَةٌ بالأنكاد، فانيةٌ، ونِعَم الآخرة خالصةٌ، باقيةٌ.
قوله :﴿ لِلَّذِينَ اتقوا ﴾ يجوز فيه أربعة أوجهٍ :
أحدها : أنه متعلّق بخَيْرٍ، ويكون الكلام تم هنا، وتُرْفَع « جَنَّاتٌ » على خبر مبتدأ محذوفٍ، تقديره هو جنات، أي ذلك الذي هو خير مما تقدم جنات، فالجملة بيان وتفسير للخَيْريَّة، ومثله قوله تعالى :﴿ قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم ﴾ [ الحج : ٧٢ ]، ثم قال :
﴿ النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ ﴾ [ الحج : ٧٢ ] ويؤيد ذلك قراءة « جَنَّاتٍ » - بكسر التاء - على أنها بدل من « بِخَيْرٍ » فهي بيان للخير.
والثاني : أن الجارَّ خبر مقدم، و « جَنَّاتٌ » مبتدأ مؤخر، أو يكون « جَنَّاتٌ » فاعلاً بالجار قبله - وإن لم يعتمد - عند مَنْ يَرَى ذلك، وعلى هذين التقديرين، فالكلام تم عند قوله :﴿ مِّن ذلكم ﴾، ثم ابتدأ بهذه الجملة، وهي - أيضاً مبينة ومفسِّرة للخَيْرية.
وأما الوجهان الأخيران فذكرهما مكي - مع جَرِّ « جَنَّات » - يعني أنه لم يُجِز الوجهين إلا إذا جررت « جنات » بدلاً من « خَيْر ».
الوجه الأول : أنه متعلق ب « أؤثنَبِّئُكُمْ ».
الوجه الثاني : أنه صفة ل « خَيْر ».
ولا بد من إيراد نصه؛ فإن فيه غشكالاً، قال - رحمه الله - بعد أن ذكر أن « لِلَّذِينَ » خبر مقدَّم، و « جنات » مبتدأ - :« ويجوز الخفض في » جناتٍ « على البدل من » خَيْر « على أن تجعل اللام في » لِلَّذِينَ « متعلقةً ب » أؤُنَبِّئُكُمْ «، أو تجعلها صفة ل » خَيْر «، ولو جعلت اللام متعلقة بمحذوف قامت مقامه لم يجز خفض » جنات « ؛ لأن حروف الجر، والظروف إذا تعلقت بمحذوف، وقد قامت مقامه - صار فيها ضمير مقدر مرفوع، واحتاجت إلى ابتداء يعود عليه ذلك الضمير، كقولك : لزيد مال، في الدار زيد، خلفك عمرو، فلا بد من رفع » جَنَّات «، إذا تعلقت اللام بمحذوف، ولو تعلقت بمحذوف على أن لا ضمير فيها لرفعت » جَنَّات « بفعلها، وهو مذهب الأخفش في رفعه ما بعد الظروف وحروف الخفض بالاستقرار، وإنما يحسن ذلك عند حذاق النحويين إذا كانت الظروف، أو حروف الخفض صفةً لما قبلها، فحينئذ يتمكن ويحْسُن رفعُ الاسم بالاستقرار، وقد شرحنا ذلك وبيناه في أمثلة؛ وكذلك إذا كانت أحوالاً ».


الصفحة التالية
Icon