وخامسها : قال أبو بكر الأصمُّ : كلُّ من جحد الرِّسالة، والمعجزة، فهو مشركٌ؛ لأن تلك المعجزات إنَّما ظهرت عن الله تعالى، وكانوا يضيفونها إلى الجنِّ والشَّياطين، ويقولون : إنَّها سحرٌ، فقد أثبتوا لله شريكاً في خلق هذه الأشياء الخارجة عن قدرة البشر.
وقال أبو الحسن بن فارس : هم المشركون؛ لأنَّهم يقولون : القرآن كلام غير الله، فقد أشركوا مع الله غير الله.
فإن قيل : إنَّه تعالى فصل بين القسمين، وعطف أحدهما على الآخر في قوله :﴿ إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى والصابئين ﴾ [ البقرة : ٦٢ ] وقال :﴿ إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا ﴾ [ الحج : ١٧ ] وقال :﴿ مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين ﴾ [ البقرة : ١٠٥ ] وذلك يوجب التَّغاير.
والجواب أنَّ هذا كقوله تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ ﴾ [ الأحزاب : ٧ ] وكقوله تعالى :﴿ مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ﴾ [ البقرة : ٩٨ ] فإن قالوا : إنَّما خصَّ بالذِّكر تنبيهاً على كمال الدَّرجة في ذلك الوصف.
قلنا : وها هنا أيضاً كذلك إنَّما خصَّ عبدة الأوثان في هذه الآيات بهذا الاسم تنبيهاً على كمال درجتهم في الكفر.
فصل في سبب النزول
سبب نزول هذه الآية : أنَّ أبا مرثد بن أبي مرثد بعثه رسول الله ﷺ إلى « مَكَّة »، ليخرج منها ناساً من المسلمين سرّاً فلما قدمها سمعت به امرأة مشركةٌ يقال لها :« عنَاق » ؛ وكانت خليلته في الجاهليَّة فأتته وقالت : يا أبا مرثد ألا تخلو؟ فقال لها : ويحك يا عَنَاق إنَّ الإسلام قد حال بَيْنَنَا وبَيْنَ ذلك. قالت : هل لك أن تتزوَّج بي؟ قال : نعم، ولكن أرجع إلى رسول الله ﷺ فأستأمره. فقالت : أبي تتبرم؟ ثم استغاثت؛ فضربوه ضرباً شديداً، ثمَّ خلَّوا سبيله، فلمَّا قضى حاجته بمكَّة، وانصرف إلى رسول الله ﷺ أعلمه الذي كان من أمره، وأمر عناق، وقال : يا رسول الله؛ أيحلُّ لي أن أتزوَّجها؛ فأنزل الله تعالى :﴿ وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ ﴾ [ البقرة : ٢٢١ ].
فصل في الآية هل هي ابتداء حكم أو تقرير سابق
واختلف المفسِّرون في هذه الآية : هل هي ابتداء حكم وشرع، أو هو متعلّقٌ بما تقدَّم؛ فالأكثرون على أنَّه ابتداء شرعٍ في بيان ما يحلُّ، ويحرم.
وقال أبو مسلم : بل هو متعلِّق بقصَّة اليتامى، فإنَّ الله تعالى لما قال :﴿ وإنْ تُخَالِطُوهم فَإِخْوَانُكُمْ ﴾ وأراد مخالطة النِّكاح عطف عليه بما يبعث على الرَّغبة في اليتامى، وأنَّ ذلك أولى ممَّا كانوا يتعاطونه من الرَّغبة في المشركات، وبيَّن أنَّ أمةً مؤمنةً خيرٌ من مشركة، فإنها بلغت النِّهاية فيما يُفْضي إلى الرَّغبة فيها ليدلَّ بذلك على ما يبعث على التَّزوُّج بالتيامى، وعلى تزويج الأيتام عند البلوغ ليكون ذلك داعيةً لما أمر به من النَّظر في صلاحهم وصلاح أموالهم.