وعلى الوجهين، فحكم الآية لا يختلف.

فصل في بيان جواز نكاح الكتابيَّة


الأكثرون من الأُمَّة قالوا : يجوز للرَّجل أن يتزوَّج بالكتابيَّة. وقال ابن عمر، ومحمَّد بن الحنفيَّة، والهادي - وهو أحد أئمَّة الزَّيديَّة - إنَّ ذلك حرامٌ، واستدلَّ الجمهور بقوله تعالى في سورة المائدة :﴿ والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب ﴾ [ المائدة : ٥ ] وسورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شيء أصلاً.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من آمن منهنّ بعد الكفر، ومن كان على الإيمان من أول الأمر؟
قلنا : قوله :﴿ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ ﴾ [ آل عمران : ١٨٦ و المائدة : ٥ و المائدة : ٥٧ ] يفيد حصلو هذا الوصف في حال الإباحة، ويدلُّ على ذلك فعلُ الصحابة، فإنهم كانوا يتزَّجون الكتابيَّات، ولم يظهر من أحد منهم إنكار ذلك وكان إِجماعاً على الجواز، كما نقل أنَّ حذيفة تزوَّج يهوديَّةٌ، أو نصرانية، فكتب إليه : أَتَزْعُمُ أَنَّهَا حَرَامٌ؟ فقال : لا، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهنَّ.
وتزوج عثمان نائلة بنت فرافصة، وكانت نصرانيَّة؛ فأسلمت تحته، وتزوَّج طلحة بن عبيد الله يهوديَّة.
وعن جابر بن عبدالله أنَّ رسول الله ﷺ قال :« نَتَزَوَّجُ نِسَاءَ أَهْلِ الكِتَابِ، وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ نِسَاءَنَا ».
وروى عبد الرَّحمن بن عوفٍ أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام قال في المجوس :« سِنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائهم، وَلاَ آكلي ذَبَائِحِهِمْ » ولو لم يكن نكاح نسائهم جائزاً، لكان هذا الاستثناء عبثاً.
وقال قتادة وسعيد بن جبير : أراد ب « المُشْرِكَاتِ » في الآية الوَثَنِيَّاتِ.
واحتجَّ القائلون بعدم الجواز بوجوه :
أحدها : أنَّ لفظ « المُشْرِك » يتناول الكتابيَّة على ما بيَّنَّاه، والتَّخصيص والنَّسخ خلافُ الظَّاهر.
قالوا : ويؤيِّد ذلك قوله في آخر الآية :﴿ أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار ﴾ والوصف المناسب إذا ذكر عقيب الحكم أشعر بالعِلِّيَّة، وكأنه تعالى قال : حَرَّمْتُ عليكم نِكَاح المُشْرِكَاتِ؛ لأنَّهم يدعُونَ إِلَى النَّارِ وهذه العِلَّةُ قَائِمَةٌ في الكِتَابِيَّةِ، فوجب القطع بتحريمها.
وثانيها : أنَّ ابن عمر لما سئل عن هذه المسألة تلا آية التَّحريم وآية التَّحليل، ووجه الاستدلال : أنَّ الأصل في الأبضاع الحرمة فلما تعارض دليلُ الحلِّ، ودليل الحرمة تساقطا؛ فوجب بقاء حكم الأصل، وبهذا الطريق لما سئل عثمان عن الجمع بين الأختين في ملك اليمين قال : أحلَّتهما آيةٌ، وحرَّمتهما آية، فحكم عند ذلك بالتَّحريم للسَّبب الذي ذكرناه، فكذا ها هنا.
وثالثها : حكى ابن جرير الطَّبريُّ في « تَفْسِيرِهِ » عن ابن عبَّاسٍ تحريم أصناف النِّساء إلاَّ المؤمنات، واحتجَّ بقوله :﴿ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ﴾ [ المائدة : ٥ ]، وإذا كان كذلك فالكتابيَّة كالمرتدَّة في أنه لا يجوز العقد عليها.
ورابعها : أنَّ طلحة نكح يهوديَّة، وحذيفة نصرانيَّة، فغضب عمر عليهما غضباً شديداً، فقالا : نطلق يا أمير المؤمنين، فلا تغضب.


الصفحة التالية
Icon