« إِنَّ ذَلكَ دَمُ عِرْق، ولَيْسَ بِالحَيْضَةِ ».
قال ابن الخطيب : وهذا جوابٌ طبّيٌّ مُخَلِّصٌ ظاهر القرآن مِنَ الطَّعن.

فصل في بيان صفات دم الحيض


اعلم أَنَّ الحيضِ موصوفٌ بصفاتٍ حقيقيةٍ، ويتفرَّعُ عليه أحكام شرعيّة فالصِّفاتُ نوعان :
الأول : المنبعُ؛ فدم الحيض يخرجُ من الرَّحم، قال تعالى :﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ ﴾ [ البقرة : ٢٢٨ ] قيل في تفسيره إنَّ المراد منه الحيض والحمل، وأَمَّا دم الاستحاضة، فإِنَّهُ لا يخرجُ من الرَّحم، لكن من عروق تنقطع من فم الرَّحم، قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في صفة دم الاستحاضة :« إِنَّهُ دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ »، وهذا يؤيّدُ ما تقدَّمَ في الجواب.
النوع الثاني : من صفات دم الحيضِ التي وصفه بها رسول اللهِ - ﷺ - وهي سِتّ :
أحدها : إنه أسود.
الثاني : أنه ثخين.
الثالث : محتدم وهو المحترقُ من شدَّةِ حرارته.
الرَّابع : أنه يخرُجُ برفق لا يسيلُ سيلاناً.
الخامس : أنَّ له رائحة كريهة بخلاف سائر الدماء؛ وذلك لأنه من الفضلات التي تدفعها الطبيعة.
والسادس : أنه بحراني وهو الشَّدِيدُ الحمرة، وقيل ما تحصُلُ فيه كدورة تشبيهاً له بماء البحر.
فهذه صفاته الحقيقيّة، ثم مِنَ النَّاسِ من قال : إِنَّ دَمَ الحَيْضِ يتميَّزُ عن دمِ الاستحاضة، فكلُّ دم موصوف بهذه الصِّفَات، فهو دَمْ حَيْضِ وما لا فلا، وما اشتبه الأمرُ فيه فالأَصْلُ بقاء التَّكليف، ولا يزول إلا بعارض الحيض، فإذا لم يُعلمْ وجوده؛ بقيت التَّكَاليفُ على ما كانت وقال آخرون : هذه الصِّفَاتُ قد تشتَبِهُ على المُكَلّف، فإيجاب التأمل من تلك الدِّمَاء يقتضي عسراً ومشقة فقدر الشاعر وقتاً مضبوطاً، متى حصلت فيه الدِّمَاءُ كان حُكمُها حُكم الحَيْضَ كيفما كانت صفةُ تلك الدِّماء قَصْداً إلى إسقاط العُسْرِ والمَشَقَّةِ.

فصل


اختلف العُلَماءُ في مُدَّةِ الحيضِ، فقال عليُّ بن أبي طالب - رضي الهُ عنه - : أقلُّه يوم ولَيْلَة، وأكثرُهُ خمسة عشر يوماً، وهو قولُ عطاء بن أَبي رباحٍ، والأوزاعيِّ، والشَّافِعِيّ، وأحمد، وإسحاق.
وقال أبو حنيفة، والثَّورِيّ : أقلّه ثلاثة أيَّام ولياليهن، فإِنْ نقص عنه، فهو دمٌ فاسد؛ وأكثره عشرةُ أيَّامِ.
قال أبو بكر الرَّازِيُّ في « أحكام القُرْآن » : وقد كان أبُو حنيفة يقولُ بقول عطاءِ، ثم تركه.
وقال مَالِكٌ : لا تقديرَ له في القِلَّةِ، والكثرة، فإن وُجِدَ ساعةً، فهو حيض، وإن وجد أيّاماً، فكذلك.
واحتجَّ أبُو بكر الرازيُّ في « أَحْكَامِ القُرْآنِ » على فساد قول مالكٍ بأنه : لو كان التَّقْدير ساقطاً في القليل، والكثِير، لوجب أَنْ يكُونَ الحيض هو الدّم الموجود من المرا’ فيلزم ألاَّ يوجد في الدنيا مستحاضة لأن كل ذلك الدم يكون حيضاً على المذهب، وذلك باطِلٌ بالإجماع ولأنه روي أَنّ فاطمة بنت أبي حبيش قالت للنّبيّ - ﷺ - « إِنِّي أُسْتَحَاضُ فَلا أَطْهُرُ » وروي أَنّ منه ما هو حيضٌ، ومنه ما هو استحاضةٌ، فبطل هذا القول ويمكن الجواب عنه بأن نقُولَ : إِنَّما يتميَّزُ دم الحيض عن دم الاستحاضة بالصِّفات التي قدّمناها لدم الحيضِ، فإذا عدمت؛ حكمنا بدم الحيض، وإِنْ تَرَدَّدْنا فيهما، كان طريانُ الحيض مجهولاً، وبقاء التّكليف الَّذِي هو الأَصلُ معلوم، والمشكوك لا يارض المعلوم، فلا جَرَمَ قلنا ببقاء التَّكاليف، فبهذا الطّريق يميز الحيض عن الاستحاضة وإن لم يجعل للحيض زماناً معيّناً.


الصفحة التالية
Icon