الحجة الثانية : تمسَّكوا بعموم قوله - تعالى - :﴿ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ [ المؤمنون : ٦ ]، ترك العمل به في حقِّ الذُّكور بالإجماع، فيبقى فيما عداه على العموم.
الحجة الثالثة : لو قال للمرأة : دُبُرِكِ عليَّ حَرَامٌ، ونوى الطَّلاق، أنه يكون طلاقاً فيقتضي كون دبرها حلالاً له.
والجواب عن الأوَّل : أن « الحَرْثَ » اسمٌ لموضع الحراثة، والمرأة بجميع أجزائها ليست محلاً للحراثة، فامتنع إطلاق اسم الحرث على ذات المرأة كما تقدَّم، فلما أطلق لفظ « الحَرْثِ » على ذات المرأَة، حملنا ذلك على المجاز المشهور من تسمية الشَّيء باسم جزئِه، وهذه الضَّرورة مفقودةٌ في قوله :« فَأْتُوا حَرْثَكُمْ » فوجب حَمْلُ الحرث ههنا على موضع الحراثة على التَّعيين؛ فثبت أن هذه الآية لا دلالة فيها إلاَّ على إتيان النِّساء في محلِّ الحرث، وقد قدَّمنا أن « الحَرْثَ » إنَّما يراد للزَّرع وهو الولد، وذلك لا يكون إلاَّ في المأتى.
وعن الثَّاني : أنه لما ثبت أن المراد ب « الحَرْثِ » ذلك الموضع المعيَّن لم يمكن حمل « أَنَّى شِئْتُمْ » على التَّخْيير في الأمكنة.
وأما قوله :﴿ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ [ المؤمنون : ٦ ] فإنه عامٌّ، ودلائلنا خاصَّةٌ، والخاصُّ مقدَّمٌ على العام.
وقولهم : دُبُرُكِ عَلَيَّ حَرَامٌ، إنما صلح أن يكون كنايةٌ عن الطَّلاق، وإنَّه لَمَحَلُّ الملامسة والمضاجعة، وهو جزؤها، فصار ذلك كقوله : يدك طالقٌ.
هذا الجواب من حيث التَّفصيل أمّا من حيث الجملة : فقد بينَّا أنَّ قوله :« قُلْ هُوَ أَذًى » يدلُّ على التَّحريم؛ لوجود العلَّة المقتضية له، فلو جوَّزنا ذلك، لكان جمعاً بين دليل التَّحريم، ودليل التَّحليل في موضع واحدٍ، والأصل أنَّه لا يجوز، وأيضاً فالرِّوايات المشهورة في كون سبب النُّزول، هو اختلافهم في أنَّهُ : هل يجوز إتيانهنّ من دُبُرِهِنّ في قبولِهِن؛ وسبب النُّزول لا يكون خارجاً عن الآية، ومتى حملنا الآية على هذه الصُّورة لم تكن الآية نزلت على ذلك السَّبب.
ويمكن الجواب عن هذا : بأن الاعتبار بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّبب، فإن السُّؤال قد يكون خاصّاً والجواب عامّاً، وهو كثير.
قوله :﴿ وَقَدِّمُواْ ﴾ مفعوله محذوفٌ، أي : نيَّةَ الولدِ، أو نيةَ الإعفاف، وذِكْرَ اللهِ أو الخير؛ كقوله :﴿ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ ﴾ [ البقرة : ١١٠ ].
وقال عطاء عن ابن عبَّاس : هي التَّسمية عند الجماع.
قال ابن الخطيب : وهذا في غاية البُعدِ : والَّذِي عندي فيه : أن قوله :﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ﴾ جار مجرى التَّنبيه على إباحة الوطءِ؛ كأنه قيل : هؤلاء النِّسوان إِنَّمَا حكم الشَّرع بإباحة وطئهنَّ لكم؛ لأجل أنَّهُن حرث لكم، أي بسبب أن يتولَّد الولدُ منهن، ثم قال بعده :﴿ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ ﴾ دليلاً على الإِذن في ذلك الموضع، والمنْع من غير ذلك المَوضع، فلمَّا اشْتَمَلت الآيةُ على الإِذن في أحدِ الموضعين، والمنع من الموضع الآخِر، لا جرم قال :﴿ وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ ﴾ أي : لا تكُونُوا في قيد قضاء الشَّهوةِ، بل كونوا في قيد تقديم الطَّاعةِ، ثم إنه - تعالى - أكَّدَ ذلك بقوله :﴿ واتقوا الله ﴾، ثم أكَّدَهُ ثالثاً بقوله :﴿ واعلموا أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ ﴾، وهذه التَّهديدات الثَّلاثة المُتَوالية، لا يليقُ ذكرها إلاَّ إذا كانت مسبوقة بالنَّهْي عن شيءٍ لذيذ مُشْتَهى، فثبت أن ما قَبْل هذه الآية دالٌّ على تحريم هذا العملِ، وما بعدها أيضاً دالٌّ على تحريمه؛ فثبتَ أَنَّ الصَّحِيح في تفسير هذه الآيةِ، ما ذهب إليه الجمهور.