« إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا » فإنه لا بد من تأويله فيه بالمحلوف عليه، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك في الآية الكريمة.
الخامسُ : أَنْ تكونَ في محلِّ جرٍّ على البدلِ من « لأَيْمَانِكُمْ » ؛ بالتأويل الذي ذكره الزمخشريُّ، وهذا أَوْلَى من وجهِ عطفِ البيانِ؛ فإنَّ عَطْفَ البيانِ أكثرُ ما يكونُ في الأعلام.
السادس - وهو الظاهرُ - : أنَّها على إسقاطِ حرفِ الجر، لا على ذلك الوجه المتقدِّم، بل الحرفُ غيرُ الحرفِ، والمتعلِّقُ غيرُ المتعلِّقِ، والتقديرُ :« لإِقْسَامِكُمْ عَلَى أَنْ تَبَرُّوا » ف « عَلَى » متعلقٌ بإِقْسَامِكُمْ، والمعنى : وَلاَ تَجْعَلوا الله مُعَرَّضاً ومُتَبَدَّلاً لإِقْسَامكُمْ على البِرِّ والتقْوَى والإِصْلاَح الَّتي هي أوصافٌ جميلةٌ؛ خَوْفاً من الحِنْثِ، فكيف بالإِقسامِ علَى ما ليس فيه بِرٌّ ولا تَقْوَى!!!
والعُرْضَةُ في اشتقاقها ثلاثةُ أقوال :
أحدها : أنها « فُعْلَة » بمعنى « مَفْعُول » ؛ من العَرضِ؛ كالقُطْبَةِ والغُرْفَة، ومعنى الآية على هذا : لاَ تَجْعَلُوهُ مُعَرَّضاً للحَلْفِ من قولهم : فُلاَنٌ عُرْضَةٌ لكَذَا، أي : مُعَرَّضٌ، قال كعبٌ :[ البسيط ]

١٠٨٤- مِنْ كُلِّ نَضَّاخَةِ الذِّفْرَى إِذَا عَرِقَتْ عُرْضَتُهَا طَامِسُ الأَعْلاَمِ مَجْهُولُ
وقال حبيبٌ :[ الطويل ]
١٠٨٥- مَتَى كَانَ سَمْعِي عُرْضَةً لِلَّوائِمِ وَكِيْفَ صَفَتْ لِلْعَاذِلِينَ عَزَائِمِي
وقال حسَّانُ :[ الوافر ]
١٠٨٦-.......................... هُمُ الأَنصَارُ عُرْضَتُهَا اللِّقَاءُ
وقال أوسٌ :[ الطويل ]
١٠٨٧- وأَدْمَاءَ مِثْلَ الفَحْلِ يَوْماً عَرَضْتُهَا لِرَحْلِي وَفِيهَا هِزَّةٌ وَتَقَاذُفُ
فهذا كلُّه بمعنى مُعَرَّضٌ لكذا.
والثاني : أنها اسمُ ما تَعْرِضُه على الشيءِ، فيكونُ من : عَرَضَ العُودَ على الإِناءِ، فيعترضُ دونَه، ويصيرُ حاجزاً ومانعاً، ومعنى الآية علَى هذا النَّهيُ عن أَنْ يَحْلِفُوا باللهِ علَى أنَّهم لا يَبَرُّونَ ولاَ يَتَّقُونَ، ويقُولُون : لا نَقْدِرُ أَنْ نَفْعَلَ ذلك لأَجْلِ حَلْفِنَا.
والثالث : أنَّها من العُرْضَة، وهي القوة، يقال :« جَمَلٌ عُرْضَةٌ للسَّفَرِ »، أي : قويٌّ عليه؛ وقال ابن الزَّبير :[ الطويل ]
١٠٨٨- فَهَذِي لأَيَّامِ الحُرُوبِ وَهَذِهِ لِلَهْوِي وَهَذِي عُرْضَةٌ لارْتحَالِنَا
أي قوةٌ وعُدَّةٌ. ثم قيل لكُلِّ ما صَلُح لِشَيء فهو عُرْضَة له، حتى قالوا للمرأَةِ : هي عُرْضَةٌ للنِّكاح إذا صَلُحَتْ له ومعنى الآية على هذا : لا تَجْعَلُوا اليمينَ بالله تعالى قوةً لأنفسكم في الامتناعِ عن البرِّ.
والأَيْمَانُ : جمعُ يَمِينٍ : وأصلُها العُضْوُ، واستُعْمِلَتْ في الحَلْفِ مجازاً لما جَرَتْ عادةُ المتعاقِدِينَ بتصافُح أَيْمانهم، واشتقاقُها من اليُمْن، واليمينُ أيضاً : اسمٌ للجهةِ التي تكونُ من ناحيةِ هذا العُضْو، فينتصبُ على الظرف، وكذلك اليسارُ، تقول : زَيْدٌ يَمِينُ عَمْروٍ، وبَكرٌ يَسَارهُ، وتُجْمَعُ اليمينُ على « أَيْمُنٍ وأَيْمَانٍ » وهل المرادُ بالأَيْمان في الآية القَسَمُ نفسُه، أو المُقْسَمُ عليه؟ قولان، الأولُ أَوْلَى.


الصفحة التالية
Icon