وقد تقدَّمَ تجويزُ الزمخشريِّ أن يكونَ المرادُ به المحلوفَ عليه واستدلالُه بالحديث والجوابُ عنه.
فصل
ذكر المُفسِّرون في هذه الآية أقوالاً كثيرة، وأجودها وجهان :
أحدهما : ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني، وهو أنَّ قوله :﴿ وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ ﴾ نهي عن الجُرأَة على اللهِ بكثَرةِ الحَلْفِ به؛ وذلك لأنه من أَكْثَرَ ذِكْر شيءٍ في معنًى من المعاني، فقد جعلهُ عُرْضَة له، فيقُول الرَّجُل : قد جَعَلْتَنِي عُرْضَة للَوْمك؛ قال الشَّاعر :[ الطويل ]
١٠٨٩-........................ | وَلاَ تَجْعَلُوني عُرْضَةَ للَّوَائِمِ |
١٠٩٠- قَلِيلُ الأَلاَيَا حافِظٌ لِيَمِينِهِ | وَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الأَلِيَّةُ بَرَّتِ |
فإن قيل : كيف يَلْزَم من تَرْك الحَلْفِ حُصُول البِرِّ والتٌّقْوى، والإصْلاَح بين النَّاسِ؟
فالجواب : أَنَّ من تَرَك الحَلْف؛ لاعْتِقَادِه أَنّ الله أَعْظَم وأَجَلَّ من أَنْ يُسْتَشْهَد باسمِه المُعَظَّم في طَلَب الدُّنْيَا، وخَسَائِس مطالب الحَلْفِ، ولا شك أن هذا من أَعْظَمِ أَبْوَابِ البِرّ.
فصل في سبب النزول
نزلت هذه الآيةُ في عبد الله بن رواحة؛ كان بينه وبَيْنَ خَتَنِهِ على أَخِيه بشير بن النُّعْمان شيء، فحلف عبدالله ألاّ يَدْخُلَ عليه، ولا يُكَلِّمَهُ، ولا يُصْلِح بَيْنَه وبين خصمهِ، وإذا قيل لهُ فيه، قال : قد حَلَفْتُ بالله ألاَّ أفْعَل، فلا يَحِلُّ لي إلاَّ أنْ تَبَرَّ يميني فأنْزَل الله هذه الآية.
وقال ابن جريج : نزلت في أبي بكر الصِّدِّيق، حين حلف ألاَّ ينفق على مسطح حين خاض في حديث الإفْك، ومعنى الآية : لا تجعلوا الحلف باللهِ شيئاً مانعاً لكم من البرِّ والتَّقوَى، يُدعى أَحدكم إلى صلة الرَّحمن أو بِرِّ، فيقول : حلفتُ بالله ألاّ أفعله، فيعتل بيمينه في ترك البِرّ.
قوله :﴿ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ خَتَم بهاتَيْن الصفتَيْن؛ لتقدُّم مناسبتهما؛ فإنَّ الحَلْفَ متعلِّقٌ بالسَّمْع، وإرادة البِرِّ من فِعْلِ القلْبِ متعلقةٌ بالعِلْم، وقَدَّم السميع؛ لتقدُّم متعلِّقِه، وهو الحَلْفُ.
قوله تعالى :﴿ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ﴾.
واللَّغْوُ : مصدرُ لَغَا يَلْغُو، يقال : لَغَا يَلْغُو لَغْواً، مثل غَزَا يَغْزُو غَزْواً، ولغِيَ يَلْغَى لَغًى مثل لَقِيَ يَلْقَى لقًى إذا أتى بما لا يُحْتاجُ إليه من الكلام، أو بما لا خير فيه، أو بِما يلغى إثمه؛ كقوله - عليه الصّلاة والسّلام -