فصل


قال أهلُ التّاريخِ : حملت مريم بعيسى ولها ثلاثَ عشْرَةَ سنةً، وولدت عيسى ببيت لحم لمضيّ خمس وستين سنةً من غلبة الاسكندر على أهل بابل، وأوحى الله إليه على رأس ثلاثين سنةً ورفعه من بيت المقْدِس ليلة القدر في شهر رمضانَ وهو ابنُ ثلاثٍ وثلاثينَ سنة، فكانت نبوته ثلاث سنين، وعاشت أمُّه مريم بعد رفعه ست سنين.

فصل


قال ابنُ الْخَطِيبِ : في مباحث هذه الآية موضعٌ مشكل، وهو أن نَصَّ القرآن يدل على أنه - تعالى - حين رفعه ألقى شبهه على غيره، على ما قال :﴿ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ ﴾ [ النساء : ١٥٧ ] والخبار واردة أيْضاً بذلك، إلا أن الرواياتِ اختلفت، فتارة يروى أن الله تعالى ألقى شَبَهَهُ عليه حتى يُقْتَل في مكانه، وبالجملة ففي إلقاء شَبَهِهِ على الغير إشكالات :
الأول : أنا لو جوَّزنا إلقاء شَبَه إنسان على إنسان آخر، لزم السفسطة؛ فإني إذا رأيتُ ولدي، ثم زينته ثانياً فحينذئ أجوِّزُ أن يكون هذا الذي أراه ثانياً ليس ولدي، بل هو إنسان آخر أُلْقِي شَبَهُهُ عليه وحينئذٍ يرتفع الأمانُ عن المحسوسات.
وأيضاً فالصحابة الذين رأوْا مُحَمَّداً ﷺ يأمرهم، ويَنْهَاهُمْ، وجب أن لا يعرفوا أنه محمدٌ؛ لاحتمال أنه ألقي شبهه على الغير، وذلك يُفْضِي إلى سقوط الشرائعِ.
وأيضاً فمدار الأمرِ في الأخبار المتواترةِ على أن يكون المُخْبر الأول إنما أخبر عن المحسوس، فإذا [ جاز ] الغلط في المبصرات كان سقوط الخبر المتواتر أولى، وبالجملة، فَفَتْحُ هذا البابِ أوله السفسطةُ، وآخره إبطالُ النبوات بالْكُلِّيَّةِ.
الإشكال الثاني : أن اللهَ - تعالى - كان قد أمر جبريل ﷺ بأن يكون معه في أكثر الأحوال، كذا قاله المفسّرون في تفسير قوله تعالى :﴿ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس ﴾ [ المائدة : ١١٠ ] ثم إن طرف جناح واحد من أجنحة جبريل عليه السلام كان يكفي للعالم من البشر، فكيف لم يَكْفِ في منع أولئك اليهود عنه.
وأيضاً إنه عليه السلام - لَمَّا كان قادراً على إحياء الموتَى، وإبراء الأكمه والأبرص، فكيف لم يقدر على إماتة اليهودِ الذين قصدوه بالسوء، وعلى إسْقامهم، وإلقاء الزمانة والفَلَج عليهم حتى يصيروا عاجزينَ عن التعرُّضِ له؟
الإشكال الثالث : أنه - تعالى - كان قادراً على تخليصه من أولئك الأعداء بأن يدفعَه عنهم، ويرفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء الشبه على الغير؟ وهل فيه إلا إلقاء مسكين في القَتْل من غير فائدة ألبتة؟
الإشكال الرابع : أنه إذا ألقي شبهه على الغير، ثم إنه رُفِعَ بَعدَ ذلك إلى السماء فالقومُ اعتقدوا فيه أنه عيسى عليه السلام مع أنه ما كان عيسى، فهذا كان إلقاء لهم في الجهل والتلبيس وهذا لا يليق بحكمة الله تعالى.


الصفحة التالية
Icon