الإشكال الخامس : أن النصارَى - على كثرتهم في مشارقِ الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح، وغلوّهم في أمره - أخبروا أنهم شاهدوه مقتولاً، مصلوباً، فلو أنكرنا ذلك، طعَنَّا فيما ثبت بالتواتر، والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة محمد ﷺ وكل ذلك باطل.
الإشكال السادس : أنه ثبت بالتواتر أن المصلوب بقي حيًّا زماناً طويلاً فلو لم يكن ذلك عيسى - بل كان غيره - لأظهر الجزع، ولقال : إني لَسْتُ بعيسى - بل إنما أنا غيره - ولبالغ في تعريف هذا المعنى، ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى، فلما لم يوجد شيء من هذا علمنا أنه ليس الأمر على ما ذكرتم.
والجواب ن الأول : أنه كل من أثبت القادرَ المختارَ سلَّم أنه - تعالى - قادرٌ على أن يخلق إنساناً آخر على صورة زَيْدٍ - مثلاً - ثم إن هذا التجويز لا يوجب الشك المذكور، فكذا القول فيما ذكرتم.
والجواب عن الثاني : أن جبريل عليه السلام لو دفع الأعداء عنه، أو أقدر الله عيسى على دَفْع الأعداء عن نفسه لبلغت معجزته إلى حد الإلجاء، وذلك غير جائز، وهذا هو الجواب عن الإشكال الثالث؛ فإنه - تعلى لو رفعه إلى السماء، وما ألْقَى شَبَهَهُ على الغير لبلغت تلك المعجزةُ إلى حَدِّ الإلجاء.
والجواب عن الرابع : أن تلامذة عيسى كانوا حاضرين، وكانوا عالمين بكيفية الواقعة؛ وهم كانوا يزيلون ذلك التلبيس.
والجواب عن الخامس : أن الحاضرين في ذلك الوقت كانوا قليلين، ودخول الشبهة على الجَمْع القليل جائز، والتواتر إذا انتهى في حد الأمر إلى الْجَمْعِ القليلِ، لم يكن مُفِيداً للعلم.
والجواب عن السادس : أن بتقدير أن يكون الذي أُلْقِيَ شَبَهُ عيسى عليه كان مُسْلِماً، وقَبِل ذلك عن عيسى عليه السلام جاز أن يسكت عن تعريف حقيقةِ الحالِ في تلك الواقعةِ.
وبالجملة فالأسئلة المذكورة أمور تتطرق إليها الاحتمالات من بعض الوجوهِ، ولما ثبت بالمعجز القاطِع صدق محمد ﷺ في كل ما أخبر عنه امتنع صيرورة هذه الأسئلة المحتملةِ معارِضَةً للنص القاطع عن الله.
قوله :﴿ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ﴾ في الآخرة ﴿ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ من الدّينِ، وأمر عيسى عليه السلام؛ التفات من غيبة إلى خطابِ؛ وذلك أنه - تعالى - قدَّم ذِكْر مَنْ كَذَّب بعيسى وافترى عليه - وهم اليهود - وقدَّم - أيضاً - ذِكْرَ مَنْ آمن به - وهم الحواريون رضي الله عنهم - وقفَّى بعد ذلك بالإخبار بأنه يجعل مُتَّبِعِي عيسى فوق مخالفيه، فلو جاء النظم على هذا السياق - من غير التفات، لكان : ثم إليّ مرجعهم، فأحكم بَيْنَهُم فيما كانوا، ولكنه التفت إلى الخطاب؛ لأنه أبلغ في البشارة، وأزجر في النذارة.