قال ابنُ عَطِيَّة : وهذا عندي خطأٌ وضَعْفٌ في فَهْمِ الكلام، وإنما المعنى : أن المثل الذي تتصوره النفوس والعقول من عيسى هو كالمُتَصَوَّر من آدمَ؛ إذ النّاس كلهم مُجْمِعُون على أن الله - تعالى - خلقه من تراب، من غير فحل، وكذلك قوله :﴿ مَّثَلُ الْجَنَّةِ ﴾ عبارة عن المُتَصَوَّر منها. والكاف في « كَمَثَلِ » اسم على ما ذكرناه من المعنى.
قال أبو حيّان :« ولا يظهر لي فرق بين كلامه هذا وكلام مَنْ جعل المثل بمعنى الشأن والحَال أو بمعنى الصفةِ ».
[ قَالَ شِهَابُ الدِّينِ : قَد تَقَدَّمَ فَي أوَّلِ الْبَقَرةِ أنَّ الْمَثَلَ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَن الصِّفَةِ، وَقَدْ لا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْهَا؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَغَايُرِهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلاَمُ النَّاسِ فِيهِ، ويدلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ « ريِّ الظَّمآنِ » عن الفارسيّ الْجَميعِ، وقَالَ :« المَثَلُ بِمعنَى الصِّفَةِ، لا يمكن تَصْحِيحُهُ فِي اللُّغَةِ، إنَّمَا الْمثَلُ التشبيه على هذا تدور تصاريفُ الكلمةِ، ولا معنى للوصفية في التشابه؛ ومعنى المثل ] في كلامهم أنها كلمة يُرْسِلها قائلُها لحكمة تُشَبَّه بها الأمور، وتقابَل بها الأحوال وقد فرق بين لفظ المثل في الاصطلاح وبين الصفة.
قال بعضهم : إن الكافَ زائدة.
وقال آخرون : إنّ » مَثَلاً « زائدة فحصل في الكافِ ثَلاَثَةُ أقوالٍ :
قيل : أظهرها : أنها على بابها من الحرفية وعدم الزيادة وقد تقدم تحقيقه.
وقال الزمخشريُّ :» فإن قلتَ : كيف شُبِّه به وقد وُجِد هو بغير أب ووُجِد آدم من غير أب ولا أمٍّ؟
قلت : هو مثله في أحد الطَّرَفَيْنِ، فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به؛ لأن المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف، ولأنه شُبِّه به في أنه وُجِد وجوداً خارجاً عن العادةِ المستمرةِ، وهما في ذلك يظهران، ولأن الوجود من غير أب ولا أمٍّ أغرب وأخرق للعادةِ من الوجود من غي رأب، فشبَّه الغريبَ بالأغرب؛ ليكون أقطعَ للخَصْم، وأحسم لمادة شُبْهَتِه، إذا نُظِّر فيما هو أغرب مما اسْتَغْرَبَه «.
فصل
قال القرطبيُّ :» دَلَّت هذه الآية على صحةِ القياسِ. والتشبيه واقع على أن عيسى خُلِقَ من غير أب كآدم، لا على أنه خلق من ترابٍ، والشيء قد يُشَبَّه بالشيء - وإن كان بينهما فرقٌ [ كَبِيرٌ ] - بعد أن يَجْتَمِعَا في وصف واحدٍ «.
وعن بعض العلماء أنه أسِر بالروم، فقال لهم : لِمَ تعبدون عيسى؟ قالوا : لأنه لا أبَ لَه.
قال : فآدم أوْلَى؛ لأنه لا أبوين له، قالوا : فإنه كان يُحْيي الموتَى؟ قال : فحَزقيل أوْلَى؛ لأن عيسى أحْيَى أربعةَ نفر، وحزقيل أحْيَى ثَمَانِيةَ آلاف، قالوا : فإنه كان يُبْرِئُ الأكمه والأبرص.
قال : فجَرْجيس أوْلَى؛ لأنه طُبخَ، وأحرق، وخَرَجَ سَالِماً.
قوله :﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ اختلفوا في المقول له : كُنْ، فالأكثرون على أنه آدم - عليه السلام - وعلى هذا يقع الإشكال في لفظ الآية؛ لأنه إنما يقول له : كن قبل أن يخلقَه لا بعده، وهاهنا يقول :﴿ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن ﴾.