يجوز في « مَنْ » وجهان :
أحدهما : أن تكونَ شرطية - وهو الظاهرُ - أي : إن حاجَّكَ أحدٌ فقُل له كيت وكيت.
ويجوز أن تكونَ موصولة بمعنى :« الذي » وإنما دخلت الفاءُ في الخبرِ لتضمُّنه معنى الشرطِ [ والمحاجةِ مفاعلة وهي من اثنين، وكانَ الأمرُ كذلِكَ ].
« فِيهِ » متعلق ب « حَاجَّكَ » اي : جادلَكَ في شأنِهِ، والهاء فيها وجهان :
أولهما : وهو الأظهرُ - عودُها على عيسى عليه السلامُ.
الثاني : عودها على « الْحَقِّ » ؛ لأنه أقربُمذكورٍ، والأول أظْهَرُ؛ لأنَّ عيسى هو المحدَّثُ عنهُ، وهو صاحبُ القصة. قوله :﴿ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ ﴾ متعلق ب « حَاجَّكَ » - أيضاً - و « ما » يجوز أن تكون موصولة اسمية، ففاعل « جَاءََكَ » ضمير يعود عليها، أي : من بعد الذي جاءك هو. ﴿ مِنَ الْعِلْمِ ﴾ حال من فاعل « جَاءَكَ ».
ويجوز أن تكونَ موصولةً حرفيَّةً، وحينئذٍ يقال : يلزم من ذلك خُلُوُّ الفعل من الفاعلِ، أو عَوْد الضمير على الحرف؛ لأن « جَاءَكَ » لا بد له من فاعل، وليس معنا شيء يصلح عوده عليه إلا « ما » وهي حرفية.
والجوابُ : أنه يجوز أن يكون الفاعل قوله :﴿ مِنَ الْعِلْمِ ﴾ و « من » مزيدة - ي : من بعد ما جاءك العلم - وهذا إنما يتخرج على قول الأخفش؛ لأنه لا يشترط في زيادتها شيئاً. و « مِنْ » في قوله :« مِنَ الْعِلْمِ » يحتمل أن تكون تبعيضيَّة - وهو الظاهر - وأن تكون لبيان الجنس. والمراد بالعلم هو أنَّ عيسى عبد الله ورسوله، وليس المراد - هاهنا - بالعلم نفس العلم؛ لن العلمَ الذي في قلبه لا يؤثر في ذلك، بل المرادُ بالعلم، ما ذكره من الدلائل العقلية، والدلائل الواصلة إليه بالوحي.
فصل
ورد لفظ « الْعِلْم » في القرآن على أربعة [ أضربٍ ].
الأول : العلم القرآن، قال تعالى :﴿ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم ﴾ [ آل عمران : ٦١ ].
الثاني : النبي ﷺ قال تعالى :﴿ فَمَا اختلفوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم ﴾ [ الجاثية : ١٧ ] أي : محمد، لما اختلف فيه أهلُ الكتاب.
الثالث : الكيمياء، قال تعالى - حكاية عن قارون- :﴿ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عنديا ﴾ [ القصص : ٧٨ ].
الرابع : الشرك، قال تعالى :﴿ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم ﴾ [ غافر : ٨٣ ] أي من الشرك.
فصل
قال ابن الخطيب : لما كنت بخوارزم أخبرتُ أنه جاء نصرانيٌّ يَدَّعِي التحقيق والتعمق في مذهبهم، فذهَبْتُ إليه، وشرعنا في الحديث، فقال : ما الدليل على نُبُوَّةِ محمد؟ فقلتُ كما نقل إلينا ظهورُ الخوارق على يد موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء نُقِل إلينا ظهور الخوارق على يد محمد ﷺ فإن ردَدْنَا التواتُرَ، وقُلْنَا : إن المعجز لا يدل على الصدق فحينئذ بطل نبوة سائر الأنبياءِ - عليهم السلامُ - وإن اعترفنا بصحةِ التواتُرِ، واعترفنا بدلالةِ المُعْجِزِ على الصدقِ، فهُمَا حاصلان في مُحَمَّدٍ ﷺ فوجبَ الاعترافُ قطعاً بنبوةِ مُحَمَّد ﷺ ضرورةَ أن عند الاستواء في الدليل لا بدّ من الاستواء في حصول المدلول.