قرأ العامة :﴿ تَلْبِسُونَ ﴾ بكسر الباء، من لبس عليه يلبس، أي : خلَطه، وقرأ يحيى بن وثَّابٍ بفتحها جعله من لبست الثوب ألبسه - على جهة المجاز، وقرأ أبو مجلز « تُلبِّسُون » - بضم التاء، وكسر الباء وتشديدها - من لبَّس « بالتشديد »، ومعناه التكثير.
والباء في « الباطل » للحال، أي : متلبساً بالباطل.

فصل في معنى : تلبسون الحق


﴿ تَلْبِسُونَ ﴾ تخلطون ﴿ الحق بالباطل ﴾ الإسلام باليهودية والنصرانية.
وقيل : تخلطون الإيمان بعيسى - وهو الحق - بالكفر بمحمد - وهو الباطل -.
وقيل : التوراة التي أنزل الله على موسى بالباطل، الذي حرَّفتموه، وكتبتموه بأيديكم، قاله الحسنُ وابن زيد.
وقال ابنُ عباس وقتادةُ : تواضعوا على إظهار الإسلام أول النهار، ثم الرجوع عنه في آخر النهار تشكيكاً للناس.
قال القاضي : أن يكون في التوراة ما يدل على نبوته ﷺ من البشارة والنعت والصفة، ويكون في التوراة - أيضاً - ما يوهم خلاف ذلك، فيكون كالمحكم والمتشابه، فيلبسون على الضعفاء أحد الأمرين بالآخر.
وقيل إنهم كانوا يقولون : إنَّ محمداً معترفٌ بأن موسى حَقٌّ، ثم إنّ التوراةَ دالة على أن شرع موسى لا ينسخ، وكل ذلك إلقاء للشبهات.
قوله :﴿ وَتَكْتُمُونَ الحق ﴾ جملة مُسْتَأنَفةٌ، ولذلك لم يُنْصَب بإضمار « أن » في جواب الاستفهام، وقد أجاز الزجاجُ - من البصريين - والفرّاءُ - من الكوفيين - فيه النصب - من حيث العربية - تسقط النون، فينتصب على الصرف عند الكوفيين، وبإضمار « أن » عند البصريين.
ومنع ذلك أبو علي الفارسيّ، وأنكَرَه، وقال : الاستفهام واقع على اللبس فحسب، وأما ﴿ يَكْتُمُونَ ﴾ فخبر حتم، لا يجوز فيه إلا الرفع. يعني أنه ليس معطوفاً على ﴿ تَلْبِسُونَ ﴾، بل هو استئناف، خَبَّر عنهم أنهم يكتمون الحقَّ مع علمهم أنه حَقٌّ.
ونقل ابو محمد بن عَطِيَّة عن أبي عليٍّ أنه قال : الصَّرْف - هنا - يَقْبُح، وكذلك إضمار « أن » لأن « تَكتُمُونَ » معطوف على موجب مقرَّر، وليس بمستفهَم عنه، وإنما استفهم عن السبب في اللبس، واللبس موجب، فليست الآيةُ بمنزلةِ قولهم : لا تأكل السمكَ وتَشْرَبَ اللَّبَنَ، وليس بمنزلة قولك : أيقومُ فأقومَ؟ والعطف على الموجب المقرَّر قبيح متى نصب - إلا في ضرورة الشعر - كما رُوِي :[ الوافر ]
١٥٠٦-............................... وَأَلْحَقَ بِالْحِجَازِ فَأسْتَرِيحَا
قال سيبويه - في قولك : أسِرْتَ حتى تَدْخُلَهَا- : لا يجوز إلا النَّصْبُ في « تداخلها » لأن السير مستفهم عنه غيرُ موجَب، وإذا قلنا : أيهم سار حتى يدخلُها؟ رفعت لأن السيرَ موجب والاستفهام إنما وقع عن غيره.
قال أبو حيّان : وظاهر هذا النقل - عنه - معارضتُه لما نقل عنه قبله؛ لأن ما قبلَه فيه أن الاستفهام رفع عن اللبس فحَسْب، وأما ﴿ يَكْتُمُونَ ﴾ فخبر حَتْماً، لا يجوز فيه إلا الرفع، وفيما نقله ابن عطية أنَّ ﴿ يَكْتُمُونَ ﴾ معطوف على موجَب مقرَّر، وليس بمستفهم عنه، فيدل العطفُ على اشتراكهما في الاستفهام عن سبب اللبس، وسبب الكَتْم الموجبين، وفرق بين هذا المعنى، وبين أن يكون ﴿ يَكْتُمُونَ ﴾ إخْباراً محضاً، لم يشترك مع اللبس في السؤالِ عن السببِ، وهذا الذي ذهبَ إليه أبو علي من أن الاستفهام إذا تضمَّن وقوعَ الفعل، لا ينتصب الفعل بإضمار « أن » في جوابه وتبعه في ذلك جمال الدين ابن مالك، فقال في تسهيله :« أو لاستفهام لا يتضمَّن وقوعَ الفعلِ ».


الصفحة التالية
Icon