قال الحَسَنُ والسُّدِّيُّ : تواطأ اثنا عشر رجلاً من أحبار خيبر وقُرَى عُرَيْنَة، وقال بَعْضُهُمْ ادخلوا في دين محمدٍ أولَ النهار باللسان دون الاعتقاد، ثم اكفروا آخِرَ النهار، وقولوا : إنّا نظرنا في كتابنا، وشاوَرْنا علماءَنا، فوجدنا محمداً ليس بذلك، وظهر لنا كذبُه، فإذا فعلتم ذلك شَكَّ أصحابُه في دينهم، واتهموه، وقالوا : إنهم أهْلُ الكتاب، وهم أعلم منا، فيرجعون عن دينهم، وهذا قول أبي مُسْلِمِ الأصبهانيِّ.
قال الأصمُّ : قال بعضهم لبعض : إن كذبتموه في جميع ما جاء به فإن عوامكم يعلمون كذبكم؛ لأن كثيراً يعلمون ما جاء به حقٌّ، ولكن صَدِّقُوه في بعض، وكَذِّبوه في بعض، حتى يحمل الناسُ تكذيبَكم على الإنصاف، لا على العِناد، فيقبلوا قولكم.
وأما الاحتمال الثاني - وهو الإيمان بالبعض - ففيه وجهان
أحدهما : قال ابنُ عباسٍ :« وَجْهَ النَّهارِ » : أوله، وهو صلاة الصبح، ﴿ واكفروا آخِرَهُ ﴾ يعني : صلاة الظهر، وتقديره : أنه ﷺ كان يصلي إلى بيت المقدس - بعد أن قدم المدينة - ففرح اليهود بذلك، وطمعوا أن يكون منهم، فلمَّا حوله الله إلى الكعبة - وكان ذلك عند صلاة الظهر - قال كعبُ بن الأشرفِ وغيره :« ءامنوا بالذي أنزل على الذين ءامنوا وجه النهار » يعني آمنوا بالْقِبْلَةِ التي صلى إليها صلاةَ الصبح، فهي الحق، ﴿ واكفروا ﴾ بالقبلة إلى الكعبة ﴿ لَعَلَّهُمْ ﴾ يقولون : إن هؤلاء أهل كتاب، وهم أعلم، فيرجعون إلى قبلتنا.
الثاني : قال بعضُهُمْ لبعض : صَلُّوا إلى الكعبة أولَ النهار ثم اكفروا بهذه القبلةِ في آخر النهار؛ وصلوا إلى الصخرة لعلهم يقولون : إن أهل الكتاب أصحابُ العلم، فلولا أنهم عَرفوا بُطْلانَ هذه الْقِبْلَة لَمَا تركوها، فحينئذٍ يرجعون عن هذه القبلة.

فصل في فوائد كشف حيلتهم


إخبار الله - تعالى - عن تواطُئِهم على هذه الحيلة فيه فائدةٌ من وُجُوهٍ :
الأول : أن ذلك إخبار عن الغيب، فَيَكون مُعْجِزاً؛ لأنها كانت مخفيَّةً فيما بينهم، وما أطْلعوا عليه أحداً من الأجانب.
الثاني : أنه - تعالى - لما أطْلع المؤمنين على هذه الحيلةِ لم يَبْقَ لها أثرٌ في قلوبِ المؤمنين، ولولا هذا الإعلام لكان رُبَّما أثّرت في قلوب بعضِ [ المؤمنين الذين ] في إيمانهم ضعف.
الثالث :[ أن القومَ ] لما افتضحوا في هذه الحيلةِ صار ذلك رادِعاً لهم عن الإقدام على أمْثَالِها من الحِيل والتلبيس.


الصفحة التالية
Icon