ثم قال :﴿ قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله ﴾.
قال ابن عباسٍ : معناه : الدين دين الله، ونظيره :﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى ﴾ [ الأنعام : ٧١ ] وبيان كيف صار هذا الكلامُ جواباً عما حكاه عنهم :
أما على الوجه الأول - وهو قولهم : لا دينَ إلا ما هم عليه - فهذا الكلام إنما صَحَّ جواباً عنهم من حيثُ إن الذي هم عليه ثبت ديناً من جهة الله - تعالى - لأنه أمر به، وأرشد إليه، فإذا وجب الانقياد لغيره كان ديناً يجب أن يُتَّبعَ - وإن كان مخالفاً لما تقدَّم - لأن الدينَ إنما صارَ ديناً بحكمه وهدايته، فحيثما كان حُكْمُه وجب متابعته، ونظيره قوله تعالى - جواباً لهم عن قوله :﴿ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا ﴾ [ البقرة : ١٤٢ ] - قوله :﴿ قُل للَّهِ المشرق والمغرب ﴾ [ البقرة : ١٤٢ ] يعني : الجهاتِ كلَّها لله، فله أن يُحَوِّل القبلةَ إلى أيِّ جهةٍ شاء.
وعلى الوجه الثاني : المعنى :﴿ إِنَّ الهدى هُدَى الله ﴾ قد جئتكم به، فلن ينفعَكم في دفعه هذا الكيد الضعيفُ.
فصل
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾ نقل ابنُ عطيّة الإجماع من أهل التأويل على أن هذا من مقول الطائفة، وليس بسديد، لما نقل من الخلاف، وهل هي من مقول الطائفة أم من مقول الله تعالى - على معنى أن الله - تعالى - خاطب به المؤمنين، تثبيتاً لقلوبهم، وتسكيناً لجأشهم؛ لئلا يشكُّوا عند تلبيس اليهودِ عليهم وتزويرهم؟
[ إذا كان من كلامِ طائفةِ اليهودِ، فالظاهر أنه انقطع كلامُهم؛ إذ لا خلاف، ولا شك أن قولَه :﴿ وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾ من كلام الله مخاطباً لنبيه ﷺ ].
قوله :﴿ أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ ﴾ اعلم أن هذه الآية من المشكلات، فنقول : اختلف الناس في هذه الآية على وجوه :
الأول : أن قوله :﴿ أَن يؤتى أَحَدٌ ﴾ متعلق بقوله :﴿ وَلاَ تؤمنوا ﴾ على حذف حرف الجر، والأًل : ولا تُؤْمِنُوا بأن يُؤتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم، فلما حُذِفَ حرف الجر جرى الخلافُ المشهور بين الخليل وسيبويه في محل « أن »، ويكون قولُه :﴿ قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله ﴾ جملةً اعتراضيةً.
قال القفّالُ : يحتمل أن يكون قوله :﴿ قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله ﴾ كلاماً أمر اللهُ نبيه أن يقولَه عند انتهاء الحكاية عن اليهود إلى هذا الموضع؛ لأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولاً باطلاً - لا جرم - أدب الله رسوله بأن يقابله بقول حَقِّ، ثم يعود إلى حكايةِ تمامِ كلامِهم - كما إذا حكى المسلم عن بعضِ الكُفَّار قَوْلاً فيه كُفْر، فيقول - عند بلوغه إلى تلك الكلمة- : آمنت بالله، أو يقول : لاَ إلَه إلا اللهُ، أو يقول : تعالى الله عن ذلك، ثم يعود إلى تمام الحكاية، فيكون قوله :﴿ قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله ﴾ من هذا الباب.