واحتجوا أيضاً بما روي عن ابن عباس قال : إنما أخذ الله ميثاقَ النَّبِيِّين على قومهم. وبقوله تعالى :﴿ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾ [ البقرة : ٤٠ ] وبقوله :﴿ وَإِذَ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب ﴾ [ آل عمران : ١٨٧ ].
وقال بعض أصحاب القول الأول : المعنى : أن الله أخذ ميثاق النبيين أن يأخذوا الميثاق على أممهم أن يؤمنوا بمحمد ﷺ وينصروه، ويصدقوه - إن أدركوه.
قال بعضهم : إن الله أخذ الميثاق على النبيين وأممِهم - جميعاً - في أمر محمد ﷺ فاكتفى بذكر الأنبياء؛ لأن العهد مع المتبوع عَهْد مع التابع، وهذا معنى قول ابن عباسٍ.
قرأ العامَّة :« لما آتيتكم » بفتح لام « لما » وتخفيف الميم، وحمزة - وحده - على كسر اللام. وقرأ الحسن وسعيد بن جبير « لَمَّا » بالفتح والتشديد.
فأما قراءة العامة ففيها خمسة أوجه :
أحدها : أن تكون « ما » موصولة بمعنى الذي، وهي مفعولة بفعل محذوف، ذلك الفعل هو جواب القسم والتقدير : واللهِ لَتُبَلِّغُنَّ ما آتيناكم من كتاب. قال هذا القائلُ : لأن لامَ القسَم إنما تقع على الفعل فلما دلت هذه اللام على الفعل حُذِف. ثم قال تعالى :﴿ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ ﴾ وهو محمد ﷺ قال : وعلى هذا التقدير يستقيم النَّظْمُ.
وقال شهاب الدينِ : وهذا الوجه لا ينبغي أن يجوز ألبتة؛ إذ يمتنع أن تقول في نظيره من الكلام :« والله لزيداً » تريد : والله لنضربن زيداً.
الوجه الثاني : وهو قول أبي علي وغيره : أن تكون اللام - في « لَمَا » - جواب قوله :﴿ مِيثَاقَ النبيين ﴾ لأنه جارٍ مَجْرَى القسم، فهي بمنزلة قولك : لزيدٌ أفضل من عمرو، فهي لام الابتداء المتلَقَّى بها القسم وتسمى اللام المتلقية للقسم. و « ما » مبتدأة موصولة و « آتيتكم » صلتها، والعائد محذوف، تقديره : آتيناكموه فحذف لاستكمال شرطه. و ﴿ مِّن كِتَابٍ ﴾ حال - إما من الموصول، وإما من عائده - وقوله :﴿ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ ﴾ عطف على الصلة، وحينئذٍ فلا بد من رابط يربط هذه الجملةَ بما قبلها؛ فإن المعطوفَ على الصلة صِلة.
واختلفوا في ذلك، فذهب بعضهم إلى أنه محذوف، تقديره : جاءكم رسول به، فحذف « به » لطول الكلام ودلالة المعنى عليه. وهذا لا يجوز؛ لأنه متى جُرَّ العائدُ لم يُحْذَف إلا بشروط، وهي مفقودةٌ هنا، [ وزعم هؤلاء أن هذا مذهب سيبويه، وفيه ما قد عرفت، ومنهم من ] قال : الربط حصل - هنا - بالظاهر، لأن الظاهر - وهو قوله « لما معكم » صادق على قوله :« لما آتيناكم » فهو نظير : أبو سعيد الذي رويت عن الخدري، والحجاج الذي رأيت أبو يوسف.