﴿ يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً ﴾ [ القصص : ٥٧ ] فيكون كقوله :﴿ إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ [ الإسراء : ١ ].
وثالثها : أن العاقل يجب أن يستحضرَ في ذهنه أنَّ الكعبةَ كالنقطة، وليتصور أن صفوف المتوجهين في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز، وليتأمل كم عدد الصفوف المحيطة بهذه الدائرة حال اشتغالهم بالصلاة، ولا شكَّ أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم عُلْويَّة، وقلوبهم قدسية، وأسرارهم نورانية، وضمائرهم ربانية، ثم إن تلك الأرواح الصافية إذا توجهت إلى كعبة المعرفة، وأجسادهم توجَّهت إلى هذه الكعبة الحسية، فمن كان في الكعبة يتصل أنوار أرواح أولئك المتوجهين بنور روحه، فتزداد الأنوار الإلهية في قلبه، ويَعْظُم لمعان الأضواء الروحانية في سِرِّه، وهذا بَحْرٌ عظيم، ومقام شريف، وهو ينبهك على معنى كونه مباركاً. وإن فسرنا البركةَ بالدوام فالكعبة لا تنفك من الطائفين والراكعين والساجدين والعاكفين. وأيضاً فالأرض كرة، وإذا كان كذلك فكل زمان يُفْرَض فهو صُبْح لقوم، وظهر لآخرين، وعَصر لثالث، ومغرب لرابع، وعشاء لخامس، وإذا كان الأمر كذلك، لم تنفك الكعبةُ عن توجُّه قوم إليها من طرَفٍ من أطراف العالم؛ لأداء فرض الصلاة، فكان الدوام حاصلاً من هذه الجهة، وأيضاً بقاء الكعبة على هذه الحالة ألُوفاً من السنين دوام - أيضاً -.
وأما كونه هدًى للعالمين، فقيل : لأنه قبلة يهتدون به إلى جهة صلاتهم.
وقيل : هُدًى، أي : دلالة على وجود الصانع المختار، وصدق محمد ﷺ في النبوة، بما فيه من الآيات والعجائب التي ذكرناها.
وقيل : هُدًى للعالمين إلى الجنة؛ لأن من أقام الصلاة إليه استوجب الجنة.
قوله :﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ﴾ يجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال، إما من ضمير « وُضِعَ » وفيه ما تقدم من الإشكال.
وأمَّا من الضمير في « بِبَكَّةَ » وهذا على رأي مَنْ يُجِيز تعدد الحال الذي حالٍ واحدٍ.
وإما من الضمير في « للعالمِينَ »، وإما من « هُدًى »، وجاز ذلك لتخصُّصِه بالوَصْف، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في « مُبَارَكاً ».
ويجود أن تكون الجملة في محل نصب؛ نعتاً لِ « هُدًى » بعد نعته بالجار قبله. ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفةً، لا محل لها من الإعراب، وإنما جِيء بها بياناً وتفسيراً لبركته وهُداه، ويجوز أن يكون الحال أو الوصف على ما مر تفصيله هو الجار والمجرور فقط، و « آياتٌ » مرفوع بها على سبيل الفاعلية لأن الجار متى اعتمد على أشياء تقدمت أول الكتاب رفع الفاعل، وهذا أرجح مِنْ جَعْلِها جملةً من مبتدأ وخبر؛ لأن الحالَ والنعتَ والخبرَ أصلها : أن تكون مفردة، فما قَرُب منها كان أولى، والجار قريب من المفرد، ولذلك تقدَّكم المفردُ، ثم الظرفُ، ثم الجملة فيما ذكرنا، وعلى ذلك جاء قوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon