﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ﴾ [ غافر : ٢٨ ]، فقدم الوصف بالمفرد « مُؤمِنٌ »، وثَنَّى بما قَرُبَ منه وهو ﴿ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ [ البقرة : ٤٩ ]، وثلَّث بالجملة وهي ﴿ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ﴾ وقد جاء في الظاهر عكس هذا، وسيأتي الكلام عليه - إن شاء الله - عند قوله :﴿ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ ﴾ [ المائدة : ٤٥ ].
قوله :﴿ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ فيه أوْجُه :
أحدها : أن « مَقَام » : بدل من « آيَاتٌ » وعلى هذا يقال : إن النحويين نَصُّوا على أنه متى ذكر جَمع لا يُبْدَل منه إلا ما يُوَفِّي بالجمع، فتقول : مررت برجال زيد وعمرو وبكر؛ لأن أقل الجمع - على الصحيح - ثلاثة، فإن لم يُوَفِّ، قالوا : وجب القطع عن البدلية، إما إلى النصب بإضمار فِعْل، وإما إلى الرفع، على مبتدأ محذوف الخبر، كما تقول - في المثال المتقدم - زيداً وعمراً، أي : أعني زيداً وعمراً، أو زيد وعمرو، أي : منهم زيد وعمرو.
ولذلك أعربوا قول النابغة الذبياني :[ الطويل ]
١٥٣٩- تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا | لِسِتَّةِ أعْوَامٍ وَذَا العَامُ سَابِعُ |
رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لأْياً أبينُهُ | وَنُؤيٌ كَجِذْمِ الْحَوْضِ أثْلَمُ خَاشِعُ |
وفي الآية الكريمة - هنا - لم يُذْكَر بعد الآيات إلا شيئان : المقام، وأمن داخله، فكيف يكون بَدَلاً؟
وهذا الإشكال - أيضاً - وارد على قول مَنْ جعلَه خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أي : هي مقام إبراهيم، فكيف يُخْبِر عن الجمع باثنين؟
وفيه أجوبة :
أحدها : أن أقلَّ الجمع اثنان - كما ذهب إليه بعضهم.
قال الزمخشري : ويجوز أن يُراد : فيه آيات مقام إبراهيم، وأمن من دخله؛ لأن الاثنين نَوْعٌ من الجَمْع، كالثلاثة والأربعة، وقال النبي ﷺ :« الاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ ».
قال الزجَّاج : ولفظ الجمع قد يُستعمل في الاثنين، قال تعالى :﴿ إِن تَتُوبَآ إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾ [ التحريم : ٤ ].
وقال بعضهم : تمام الثلاة قوله :﴿ وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت ﴾ وتقدير الكلام : مقام إبراهيم، وأن من دخله كان آمناً، وأن لله على الناس حَجَّ البيت، ثم حذف « أن » اختصاراً، كما في قوله :﴿ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط ﴾ [ الأعراف : ٢٩ ] أي : أمر ربي أن اقسطوا.
الثاني : أن ﴿ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ وإن كان مفرداً لفظاً إلا أنه يشتمل على آياتٍ كثيرةٍ، بمعنيين :
أحدهما : أن أثر القدمين في الصخرة الصَّمَّاء آية، وغَوصَهما فيها إلى الكعبين آية أخْرَى؛ وبعض الصخرة دون بعض آيةٌ، وإبقاؤه على مر الزمان، وحفظه من الأعداء الكثيرة آية، واستمراره دون آيات سائر الأنبياء خلا نبينا صلى الله عليه وعلى سائرهم آية، قال معناه الزمخشري.