وثانيهما : أن ﴿ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ بمنزلة آيات كثيرة؛ لأن كل ما كان معجزةً لنبيٍ فهو دليل على وجود الصانع وعلمه وقدرته وإرادته وحياته، وكونه غنيًّا مُنَزَّهاً، مقدَّساً عن مشابهة المحدثات، فمقام إبراهيم وإن كان شيئاً واحداً إلا أنه لما حصل فيه هذه الوجوه الكثيرة كان بمنزلة الآيات، كقوله تعالى :﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً ﴾ [ النحل : ١٢٠ ]، قاله ابنُ الخطيب.
الثالث : أن يكون هذا من باب الطَّيّ، وهو أن يُذْكَرَ جَمْعٌ، ثم يُؤتَى ببعضه، ويُسْكَت عن ذِكْر باقيه لغرض للمتكلم، ويُسَمَّى طَيًّا.
وأنشد الزمخشري عليه قول جرير :[ البسيط ]

١٥٤٠- كَانَتْ حَنِيفَةُ أثْلاَثاً فَثُلْثُهُمُ مِنَ الْعَبِيدِ، وَثُلْثٌ مِنْ مَوَالِيهَا
وأورد منه قوله ﷺ :« حُبِّبَ إليّ مِنْ دُنْيَاكُم ثَلاثٌ : الطيبُ والنِّسَاءُ، وجُعِلَت قُرَّةُ عَينِي فِي الصلاة » ذكر اثنين - وهما الطيب والنساء - وطَوَى ذِكْر الثالثة.
لا يقال إن الثالثة قوله ﷺ :« جعلت قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ » لأنها ليست من دنياهم، إنما هي من الأمور الأخروية.
وفائدة الطَّيّ - عندهم - تكثير ذلك الشيء، كأنه تعالى لما ذكر من جملة الآيات هاتين الآيتين قال : وكثير سواهما.
وقال ابنُ عطية :« والأرجح - عندي - أن الماقم، وأمن الداخل، جُعِلاَ مثالاً مما في حرم الله - تعالى - من الآيات، وخُصَّا بالذِّكْر؛ لِعِظَمِهِمَا، وأنهما تقوم بهما الحُجَّةُ على الكفَّار؛ إذْ هم مدركون لهاتين الآيتين بِحَوَاسِّهم ».
الوجه الثاني : أن يكون ﴿ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ عطف بيان، قاله الزمخشري.
ورَدَّ عليه أبو حيان هذا من جهة تخالفهما تعريفاً وتنكيراً، فقال : وقوله مخالف لإجماع البصريين والكوفيين، فلا يلتفت إليه، وحُكْم عطف البيان عند الكوفيين حكم النعت، فيُتْبعون النكرة نكرة، و المعرفة معرفة، ويتبعهم في ذلك أبو علي الفارسي. وأما البصريون، فلا يجوز - عندهم - إلا أن يكونا معرفتين، ولا يجوز أن يكونا نكرتين، وكل شيء أورده الكوفيون مما يُوهِم جوازَ كونه عطفَ بيان جعله البصريون بَدَلاً، ولم يَقُمْ دليل للكوفيين؛ وستأتي هذه المسألة إن شاء الله - عند قوله :﴿ مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ ﴾ [ إبراهيم : ١٦ ] وقوله :﴿ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ ﴾ [ النور : ٣٥ ]، ولما أوّل الزمخشريُّ مقام إبراهيم وأمن داخله - بالتأويل المذكور - اعترض على نفسه بما ذكرناه من إبدال غير الجمع من الجمع - وأجاب بما تقدم، واعترض - أيضاً - على نفسه بأنه كيف تكون الجملة عطف بيان للأسماء المفردةِ؟ فقال :« فإن قلتَ : كيف أجَزْت أن يكون مقام إبراهيم والأمن عطف بيان للآيات. وقوله :﴿ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ جملة مستأنفة، إما ابتدائية وإما شرطية؟
قلت : أجَزْت ذلك من حيث المعنى؛ لأن قوله :﴿ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ دل على أمْن مَنْ دخله، وكأنه قيل : فيه ىيات بيِّنات مقام إبراهيم وأمن من دخله، ألا ترى أنك لو قلت : فيه آية بينة، مَنْ دخله كان آمناً صَحَّ؛ لأن المعنى : فيه آية بينة أمن مَنْ دخله »
.


الصفحة التالية
Icon