فصل
قوله :﴿ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾.
قال الحسن وقتادة : كانت العرب - في الجاهلية - يقتل بعضهم بعضاً، ويُغير بعضهم على بعض، ومن دخل الحرم أمِنَ مِن القتل والغارة، وهذا قول أكثر المفسرين، لقوله تعالى ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ [ العنكبوت : ٦٧ ].
وقيل : أراد به أن مَنْ دخله عام عمرة القضاء مع رسول الله ﷺ كان آمِناً، كما قال تعالى :﴿ لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ ﴾ [ الفتح : ٢٧ ].
وقال الضَّحَّاكُ : من حَجَّه كان آمناً من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك.
وقيل : معناه من دَخَلَه مُعَظِّماً له، متقرِّباً إلى الله - تعالى - كان آمناً يوم القيامة من العذاب.
وقيل : هو خبر بمعنى الأمر، تقديره : ومن دخله فأمِّنوه، كقوله تعالى :﴿ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج ﴾ [ البقرة : ١٩٧ ]، أي : لا ترفثوا، ولا تفسقوا، ولا تجادلوا.
فصل
قال أبو بكر الرازي : لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله :﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ﴾ موجودة في جميع الحرم، ثم قال :﴿ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾، وجب أن يكون مراده جميع الحرم، وأجمعوا على أنه لو قَتَل في الحرم، فإنه يُسْتَوْفَى القصاص منه في الحرم، وأجمعوا على أن الحرَم لا يفيد الأمان فيما سوى النفس، إنما الخلاف فيما إذا وجب القصاص عليه خارج الحرم، فالتجأ إلى الحرم، فهل يُستوفى منه القصاص في الحرم؟
فقال الشافعي : يستوفى.
وقال أبو حنيفة : لا يستوفى، بل يمنع منه الطعام، والشراب، والبيع والشراء، والكلام حتى يخرج، ثم يستوفى منه القصاصُ، واحتج بهذه الآية فقال : ظاهر الآية الإخبار عن كونه آمِناً، ولا يُمكن حمله على الخبر؛ إذْ قد لا يصير آمِناً في حق مَنْ أتى بالجناية في الحَرَم، وفي القصاص فيما دون النفس، فوجب حمله على الأمر، وتركنا العمل به في الجناية التي دون النفس؛ لأن الضرر فيها أخف من ضرر القتل، وفي القصاص بالجناية في الحرم؛ لأنه هو الذي هتك حُرْمة الحَرَم، فيبقى في محل الخلاف على مقتضى ظاهر الآية.
وأجي ببأنَّ قوله :﴿ كَانَ آمِناً ﴾ إثبات لمُسَمَّى الآية، ويكفي في العمل به، في إثبات الأمن من بعض الوجوه، ونحن نقول به، وبيانه من وجوه :
الأول : أن من دخله للنُّسُكِ، تقرُّباً إلى الله تعالى، كان آمِناً من النار يوم القيامة، قال ﷺ « مَنْ صَبَرَ عَلَى حَرِّ مكةَ سَاعةً من نَهَارِ تَبَاعَدَتْ عَنْهُ النَّارُ مَسِيرَةَ مِائَتَيْ عَامٍ »، وقال ﷺ « مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يفْسقْ خَرَجَ من ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أمُّه ».
الثاني : يحتمل أن يكونَ المراد : ما أودعه الله في قلوب الخَلْق من الشفقة على كل من التجأ إليه، ودفع المكروه عنه، ولما كان المر واقعاً على هذا الوجه - في الأكثر - أخبر بوقوعه على هذا الوجه مطلقاً، وهذا أولى مما قالوه، لوجهين :
الأول : أنا - على هذا التقدير - لا نجعل الخبر قائماً مقامَ الأمر، وهم جعلوه قائماً مقامَ الأمر.