وهذان القولان نَصٌّ في رَدِّ ما قاله أبو حيان، إلا أن المعنى الذي ذكره أولَى؛ لأنه إذا أنقذهم من طَرف الحفرة فهو أبلغ من إنقاذهم من الحفرة، وما ذكره - أيضاً - من الصناعة واضح.
قال بعضهم :« شَفَا الحُفْرة، وشفتها : طرفها، فجاز أن يخبر عنها بالتذكير والتأنيث ».
والإنقاذ : التخليص والتنحِية.
قال الأزهَريُّ :« يقال : أنقذته، ونقذته، واستنقذته، وتنقَّذْتُه بمعنًى ويقال : فرس نقيذ، إذا كان مأخوذاً من قوم آخرين؛ لأنه استُنْقِذَ منهم ».
والحفرة : فُعْلَة بمعنى : مفعولة، كغُرْفة بمعنى : مغروفة.

فصل


قيل معناه : إنكم كنتم مُشْرِفين على جهنمَ بكُفْركم؛ لأن جهنم مشبهة بالحُفْرة التي فيها النار، فجعل استحقاقهم النار بكفرهم، كالإشراف منهم على النار، والمصير منهم إلى حَرْفها، فبيَّن - تعالى - أنه أنقذهم من هذه الحُفرة، بعد أن قربوا من الوقوع فيها.
قالت المعتزلة : ومعنى ذلك أن الله - تعالى - لطف بهم بالرسول ﷺ وسائر ألطافه حتى آمنوا.
وقال أهل السنة : جميع الألطاف مشترك بين المؤمن والكافر، فلو كان فاعل الإيمان وموجده هو العبد لكان العبد هو الذي أنقذ نفسه من النار، والله - تعالى - حكم بأنه هو الذي أنقذهم من النار، فدل هذا على أنه خالق أفعال العباد.
قوله تعالى :﴿ كذلك يُبَيِّنُ الله ﴾ نعت لمصدر محذوف، أو حال من ضميره، أي : يبين الله لكم تَبْييناً مثل تبيينه لكم الآيات الواضحة، لكي تهتدوا بها.
قال الجبائي :« الآية تدل على أنه - تعالى - يُريد منهم الاهتداء ».
قال الواحدي : إن المعنى : لتكونوا على رَجاء هدايته. وهذا فيه ضَعْفٌ؛ لأن على هذا التقدير يلزم أن يريد الله منهم ذلك الرجاء، وعلى مذهبنا قد لا يريده.
وأجاب غيره بأن كلمة « لَعَلَّ » للترجي، والمعنى : أنا فعلنا فعلاً يشبه فعل من يترجى ذلك.
قوله :﴿ وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير ﴾ اعلم أنه - تعالى - لما عاب على أهل الكتاب كفرهم وسعيهم في تكفير الغير خاطب المؤمنين بتقوى الله والإيمان به، فقال :﴿ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ واعتصموا بِحَبْلِ الله ﴾ ثم أمرهم بالسعي في إلقاء الغير في الإيمان والطاعة، فقال :﴿ وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ ﴾ يجوز أن تكون التامة، أي : ولتوجد منكم أمة، فتكون « أمَّةٌ » : فاعلاً، و « يَدْعُونَ » : جملة في محل رفع صفة ل « أمة »، و « مِنْكُمْ » متعلق ب « تكن » على أنها تبعيضية.
ويجوز أن يكون :« مِنْكُمْ » متعلِّقاً بمحذوف على أنه حال من « أمَّةٌ » إذْ كان يجوز جعله صفةً لها لو تأخر عنها. ويجوز أن تكون « مِنْ » للبيان؛ لأن المبيَّن - وإن تأخر لفظاً - فهو متقدم رتبة.


الصفحة التالية
Icon