الثالث : أنه متعلِّق - من حيث المعنى، لا من حيث الإعراب، ب « تَأمُرُونَ » على أن مجرورَها مفعول به، فلما تقدم ضَعُفَ العامل، فَقُوِّيَ بزيادة اللام، كقوله :﴿ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ﴾ [ يوسف : ٤٣ ] أي : إن كنتم تعبرون الرؤيا.
قوله :﴿ تَأْمُرُونَ ﴾ في هذه الجملة أوجُهٌ :
الأول : أنها خبر ثان لِ « كُنْتُمْ »، ويكون قد راعى الضمير المتقدم - في « كُنْتُمْ »، ولو راعى الخبر لقال : يأمرون - بالغيبة، وقد تقدم تحقيقه.
الثاني : أنها في محل نصب على الحال، قاله الراغب وابن عطية.
الثالث : أنها في محل نصب؛ نعتاً لِ ﴿ خَيْرَ أُمَّةٍ ﴾، وأتى بالخطاب لما تقدم، قاله الحوفي.
الرابع : أنها مستأنفة، بيَّن بها كونهم خير أمة، كأنه قيل : السبب في كونكم خير الأمم هذه الخصال الحميدة، والمقصود بيان علة تلك الخيرية - كقولك : زيد كريم؛ يُطعِم الناسَ ويكسوهم - لأن ذِكْرَ الحكم مقروناً بالوصف المناسِب له يُشْعِر بالعلِّيَّةِ، فها هنا لما ذكر - عقيب الخيرية - أمْرَهم بالمعروف، ونَهْيَهُم عن المنكر، أوجب أن تكون تلك الخيرية لهذا السبب، وهذا أغرب الأوجه.

فصل


في كيفية النظم وجهان :
أحدهما : أنه لما حذَّر المؤمنين من أن يكونوا مثل أهل الكتاب - في التفرُّق والاختلاف، وذكر ثواب المطيعين، وعقاب الكافرين، وكان الغرض من ذلك حَمْلَ المؤمنين على الانقياد والطاعة، أرْدَفه بطريق آخر يقتضي الحمل على الانقياد والطاعة، فقال :﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾، فاللائق بكم ألا تُبْطِلوا على أنفسكم هذه الفضيلة المحمودة، وإن كنتم منقادين للطاعات.
الثاني : أنه - تعالى - لما ذكر وعيدَ الأشقياء، وتسويد وجوههم - ونبَّه على السبب بقوله :﴿ وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [ آل عمران : ١٠٨ ] يعني : أنهم إنما استحقُّوا ذلك بأفعالهم القبيحةِ؛ نبَّه في هذه الآية على سبب وعد السعداء بقوله :﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ﴾ يعني : أن تلك السعدات التي فازوا بها في الآخرة؛ لأنهم كانوا خير أمةٍ أخْرِجَتْ للناس.
قال عكرمة، ومُقَاتِلٌ : نزلت في ابن مسعود، وأبَي بن كعب، ومُعَاذِ بن جبلٍ، وسالم مولي أبي حذيفة، وذلك أن مالك بن الصيف، ووهب بن يهوذا اليهوديَّيْن قالا لهم : نحن أفضل منكم، وديننا خير مما تدعوننا إليه. [ فأنزل الله هذه الآية ].
وروى الترمذيُّ - عن بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جده - أنه سمع النبيَّ ﷺ يقول - في قوله تعالى :﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ﴾ قال :« أنْتُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أمَّةً، أنْتُمْ خَيْرُهَا وَأكْرَمُهَا عَلَى اللهِ تَعَالَى » قال : هذا حديث حسن. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ﴾ قال : هم الذين هاجروا مع رسول الله ﷺ إلى المدينة.
وقال جويبر - عن الضَّحَّاك- : هم أصحاب محمد ﷺ خاصَّة الدعاة والرواة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم.


الصفحة التالية
Icon