﴿ وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ [ آل عمران : ١٣٣ ]، والعجلة - أيضاً - ليست مذمومة على الاطلاق؛ لقوله تعالى :﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى ﴾ [ طه : ٨٤ ].
الوجه الثاني : يعملونها غَيْرَ متثاقلين.
قوله :﴿ وأولئك مِنَ الصالحين ﴾ أي : الموصوفون بهذه الصفات من جملة الصالحين، الذين صلحت أحوالهم عند الله ورضيهم، وهذا غاية المدح من وجهين :
الأول : أن الله مدح بهذه الصفة أكابر الأنبياء، فقال - بعد ذكر إسماعيل، وإدريس، وذي الكفل وغيرهم :﴿ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ الصالحين ﴾ [ الأنبياء : ٨٦ ]، وقال :﴿ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ التحريم : ٤ ].
الثاني : أن الصلاح ضِدُّ الفساد، فكل ما لا ينبغي أن يكون فهو فساد، سواء كان ذلك في العقائد، أو في الأعمال - وإذا كان كذلك كان كل ما ينبغي أن يكون صلاحاً، فكان الصَّلاحُ دالاًّ على أكمل الدرجات.
قوله :﴿ مِنَ الصالحين ﴾ يجوز في « من » أن تكون للتبعيض - وهو الظاهر-.
وجعلها ابن عطية لبيان الجنس، وفيه نظر؛ إذْ لم يتقدم مُبْهَمٌ، فتبينه هذه.
قوله :﴿ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ ﴾.
قرأ الأخوان وحَفْص :« يَفْعَلُوا » و « يُكْفروهُ » - بالغيبة-.
والباقون بالخطاب.
الغيب مراعاة لقوله :﴿ مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ ﴾، فجرى على لفظ الغيبة، أخبرنا - تعالى - أن ما يفعلونه من خير يبقى لهم غير مكفور؛ وقراءة الباقين بالتاء الرجوع إلى الخطاب لأمة محمد ﷺ في قوله :﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ﴾.
ويجوز أن يكون التفاتاً من الغيبة في قوله :﴿ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ ﴾ إلى آخره؛ إلى خطابهم، وذلك أنه آنسهم بهذا الخطاب، ويؤيد ذلك أنه اقتصر على ذكر الخير دون الشر؛ ليزيد في التأنيس. ويدل على ذلك قراءة الأخوين؛ فإنها كالنص في أن المراد قوله :﴿ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ ﴾.
فصل
اعلم أن اليهودَ لما قالوا لعبد الله بن سلام وأصحابه : إنكم خسرتم بسبب إيمانكم، قال الله تعالى : بل فازوا بالدرجات العُظْمَى، فالمقصود تعظيمهم؛ ليزول عن قلبهم أثر كلام أولئك الجهال، وهذا وإن كان لفظه - على قراءة الغيبة - لمؤمني أهل الكتاب، فسائر الخلق يدخلون فيه نظراً إلى العلّة.
أما على قراءة المخاطبة فهذا ابتداء خطاب لجميع المؤمنين - ونظيره قوله :﴿ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله ﴾ [ البقرة : ١٩٧ ]، وقوله :﴿ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٧٢ ]، وقوله :﴿ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله ﴾ [ المزمل : ٢٠ ]، ونقل عن أبي عمرو : أنه كان يقرأها بالقراءتين.
وسُمِّيَ منع الجزاء كفراً لوجهين :
الأول : أنه - تعالى - سَمَّى إيصال الجزاء شُكْراً، فقال :﴿ فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [ البقرة : ١٥٨ ]، وسمى منعه كفراً.
الثاني : أن الكفر - في اللغة- : الستر. فسمي منع الجزاء كُفْراً؛ لأنه بمنزلة الجَحْدِ والستر.