لما شرح أحوالَ المؤمنين والكافرين، شرع في تحذير المؤمنين عن مخالطة الكافرين، وأكد الزجر عن الركون إلى الكُفار، وهو مُتَّصل بما سبق من قوله :﴿ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب ﴾ [ آل عمران : ١٠٠ ].
قوله :﴿ مِّن دُونِكُمْ ﴾ يجوز أن يكون صفةً ل « بِطَانَةً »، فيتعلق بمحذوف، أي : كائنة من غيركم.
وقدره الزمخشريّ : من غير أبناء جنسكم وهم المسلمون.
ويجوز أن يتعلق بفعل النهي، وجوَّز بعضُهم أن تكون « من » زائدة، والمعنى : دونكم في العمل والإيمان.
وبطانة الرجل : خاصَّته الذين يُبَاطنهم في الأمور، ولا يُظْهِر غيرَهم عليها، مشتقة من البطن، والباطن دون الظاهر، وهذا كما استعاروا الشعارَ والدِّثار في ذلك، قال ﷺ :« النَّاسُ دثار، والأنْصَارُ شِعَار ».
والشعَارُ : ما يلي الجسد من الثياب. ويقال : بَطَنَ فلانٌ بفلانٍ، بُطُوناً، وبِطَانة.
قال الشاعر :[ الطويل ].
١٥٨٢- أولَئِكَ خُلْصَانِي، نَعَمْ وَبِطَانَتِي | وَهُمْ عَيْبَتِي مِنْ دُونِ كُلِّ قَرِيبِ |
فإن قيل : قوله :﴿ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً ﴾ نكرة في سياق النفي، فيقتضي العموم في النهي عن مصاحبة الكفار، وقد قال تعالى :﴿ لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ﴾ [ الممتحنة : ٨ ] فكيف الجمع فيهما.
فالجواب : أن الخاص مقدَّم على العام.
قوله :﴿ لاَ يَأْلُونَكُمْ ﴾ لما منع المؤمنين من أن يتخذوا بطانة من الكافرين ذَكَر علَّة النهي، وهي أمور :
أحدها : قوله :﴿ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ﴾ يقال : ألا في الأمر، يَألُو فيه، أي : قصَّر - نحو غزا يغزو - فأصله أن يتعدى بحرف الجر كما ترى. واختلف في نصب « خَبَالاً » على وجوه :
أحدها : أنه مفعول ثانٍ، وإنما تعدَّى لاثنين؛ للتضمين.
قال الزمخشري : يقال : ألا في الأمر، يألو فيه - أي : قصَّر - ثم استُعْمِل مُعَدًّى إلى مفعولين في قولهم : لا آلوك نُصْحاً، ولا آلوك جُهْداً، على التضمين، والمعنى : لا أمنعك نُصْحاً ولا أنقُصُكَهُ.
الثاني : أنه منصوب على إسقاط الخافض، والأصل : لا يألونكم في خبال، أو في تخبيلكم، أو بالخبال، كما يقال : أوجعته ضرباً، وهذا غير منقاسٍ، بخلاف التضمين؛ فإنه ينقاس، وإن كان فيه خلافٌ واهٍ.
الثالث : أن ينتصب على التمييز، وهو - حينئذ - تمييز منقول من المفعولية، والأصل : لا يألون خبالكم، أي : في خبالكم، ثم جعل الضمير - المضاف إليه - مفعولاً بعد إسقاط الخافض فنُصِبَ الخبال - الذي كان مضافاً - تمييزاً، ومثله قوله :﴿ وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً ﴾ [ القمر : ١٢ ] على أن « عُيُوناً » بدل بعض من كل، وفيه حذف العائد، أي : عيوناً منها، وعلى هذا التخريج، يجوز أن يكون « خَبَالاً » يدل اشتمال من « كم » والضمي ر أيضاً محذوف أي :« خبالاً منكم » وهذا وَجْه رابع.