قوله :﴿ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ﴾ متعلق ب « بَدَتْ » و « مِنْ » لابتداء الغاية، وجوَّز ابو البقاء أن يكون حالاً، أي : خارجة من أفواههم، والأفواه : جمع فَم، وأصله فوه، فلامه هاء، يدل على ذلك جمعه على أفواه، وتصغيره على « فُوَيْه »، والنسب إليه على فوهي، وهل وزنه فَعْل - بسكون العين- أو « فَعَل » - بفتح العين-؟ خلاف للنحويين، ثم حذفوا لامه تخفيفاً، فبقي آخرهُ حرف علة، فأبدلوه ميماً؛ لقُرْبهِ منها؛ لأنهما من الشفة، وفي الميم هُوِيٌّ في الفم يضارع المد الذي في الواو.
وهذا كله إذا أفردوه عن الإضافة، فإن أضافوه لَمْ يُبْدلوا حرفَ العلة.
كقوله :[ البسيط ]

١٥٨٨- فَوهٌ كَشقِّ الْعَصَا لأْياً تُبَيِّنُهُ أسَكُّ مَا يَسْمَعُ الأصْوَاَ مَضلُومُ
عكس الأمر في الطرفين، فأتى بالميم في حال الإضافة، وبحرف العلة في القطع عنها. فمن الأول قوله :[ الرجز ]
١٥٨٩- يُصْبِحُ ظَمْآنَ وَفِي الْبَحْرِ فَمُهُ... وخصَّه الفارسيُّ وجماعة بالضرورة، وغيرهم جوَّزه سعة، وجعل منه قوله :« لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك ».
ومن الثاني قوله :[ الرجز ]
١٥٩٠- خَالَطَ مِنْ سَلْمَى خَيَاشِيمَ وَفَا... أي : وفاها، وإنما جاز ذلك؛ لأن الإضافة كالمنطوق بها.
وقالت العرب : رجل مفوَّه - إذا كان يجيد القولَ - وأَفْوَه : إذا كان واسعَ الفم.
قال لبيد :[ الوافر ]
١٥٩١-.............. وَمَا فَاهُوا بِهِ أبَداً مُقِيمُ
وفي الفم تسع لغات، وله أربع مواد : ف م ه. ف م و. ف م ي. ف م م؛ بدليل أفواه، وفموين، وفميين، وأفمام.

فصل


﴿ قَدْ بَدَتِ البغضآء ﴾ أي : ظهرت علامة العداوة من أفواههم.
فإن حملناه على المنافقين، فمعناه أن يجري في كلامه ما يدل على نفاقه، وعدم الود والنصيحة، كقوله :﴿ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول ﴾ [ محمد : ٣٠ ]، أو بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين، والكفَّار، لإطلاع بعضهم بعضاً على ذلك.
وإن حملناه على اليهود فمعناه : أنهم يُظهرون تكذيب النبي ﷺ والكتاب، وينسبونه إلى الجهل. وإن حَمَلْناه على الكُفَّار، فمعنى البغضاء الشتيمة و الوقيعة في المسلمين.

فصل


قال القُرْطُبِيُّ :« وفي هذه الآية دليل على أن شهادةَ العدو على عدوِّه لا تجوز، وبذلك قال أهل المدينة وأهل الحجاز، ورُوِيَ عن أبي حنيفةَ جوازُ ذلك.
وحكى ابن بطّال عن ابن شعبان أنه قال : أجمع العلماء على أنه لا تجوز شهادة العدو على عدوه في شيء، وإن كان عَدْلاً - والعداوة تُزيل العدالة، فكيف بعداوة الكافر »
.
قوله :﴿ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ﴾ يجوز أن تكون « ما » بمعنى : الذي، والعائد محذوف - أي : تخفيه فحذف - وأن تكون مصدرية - أي : وإخفاء صدورهم - وعلى كلا التقديرين، ف « ما » مبتدأ و « أكبر » خبره، والمفضَّل عليه محذوف، أي : أكبر من الذي أبدَوْهُ بأفواههم.


الصفحة التالية
Icon