﴿ حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور ﴾ [ هود : ٤٠ ]، ثم جعلوا هذه اللفظة استعارة في السرعة، يقال : جاء فلان من فوره وفيه قول الأصوليين الأمر للفور ويعبّر به عن الغضب والحِدة؛ لأن الغضبان يسارع إلى البطش بمن يغضب عليه، فالفَوْز - في الأصل - : مصدر، ثم يُعَبَّر به عن الحالة التي لا ريث فيها ولا تعريج على شيء سواها وقال ابن عباس والحسن وقتادة وأكثر المفسرين : معنى « مِنْ فَورِهم هَذَا » : من وجههم هذا.
وقال مجاهد والضَّحَّاكُ : من غضبهم هذا؛ لأنهم إنَّما رجعوا للحرب يوم أُحُد من غَضَبِهم ليوم بدر.
قوله :﴿ مُسَوِّمِينَ ﴾ كقوله :﴿ مُنزَلِينَ ﴾، وقرأ ابْنُ كَثيرٍ وأبُو عَمْروٍ وعَاصِمٌ بكسر الواو، على اسم الفاعل، والباقون بفتحها على اسم المفعول، فأما القراءة الأولى، فيحتمل أن تكون من السوم - وهو ترك الماشية ترعى - والمعنى : أنهم سَوَّموا خَيْلَهم، أي أعطوها سَوْمَها من الجَرْي والجَوَلان، وتركوها كذلك، كما يفعل من يسيم ماشيته في المرعى.
ويحتمل أن تكون من السومة - وهي العلامة - على معنى أنهم سوموا أنفسهم، أو خيلهم.
روي أنهم كانوا على خَيْلٍ بُلْقٍ، قال عروة بن الزبير : كانت الملائكة على خَيْل بُلْقٍ، عليهم عمائمُ بِيضٌ، قد أرسلوها بين أكتافهم.
وقال هشام بن عروة : عمائم صفر.
وروي أنهم كانوا بعمائم بيضٍ، إلا جبريل فبعمامة صفراء، على مثال الزبير بن العوام.
قال قتادةُ والضَّحَّاكُ : كانوا قد علموا بالعهن في نواصي الخيل وأذنابها.
ورُوِيَ أنَّ النَّبي ﷺ قال لأصحابه يوم بدر :« تسوموا، فإنَّ الملائكة قد تسومت بالصوف الأبيض في قلانسهم ومغافرهم » وأما القراءة الثانية، فواضحة بالمعنيين المذكورين، فمعنى السوم فيها : أن الله أرسلهم، إذ الملائكة كانوا مرسلين من عند الله لنُصْرة نبيه والمؤمنين.
قال أبو زيد : سوم الرجل خَيْلَه، أي أرسلها.
وحكى بعضهم : سومت غلامي، أي : أرسلته، ولهذا قال الأخفش : معنى « مُسَوَّمِينَ » مُرْسَلِين.
ومعنى السومة فيها : أن الله - تعالى - سومهم، أي جعل عليهم علامة، وهي العمائم، أو أن الملائكة جعلوا خيلهم نوعاً خاصاً - وهي البلق - فقد سوموا خيلهم.
فصل
قال القُرْطُبِيُّ :« وفي الآية دلالة على اتخاذ الشارة، والعلامة للقبائل، والكتائب، يجعلها السلطان لهم؛ لتتميز كل قبيلة وكتيبة من غيرها عند الحرب، وعلى فضل الخيل البُلْق؛ لنزول الملائكة عليها ».
قال القرطبي :« ولعلها نزلت على البلق موافقة لفرس المقداد؛ فإنه كان أبلق، ولم يكن له فرس غيره، فنزلت الملائكة على الخيل البُلْق، إكراماً للمقداد، كما نزل جبريل معتماً بعمامة صفراء على مثال الزبير ».
قوله :﴿ وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى ﴾ الكناية في « جَعَلَهُ » عائدة على المصدر، أي : ما جعل الإمداد إلا بشرى لكم بأنكم تُنصرون، وهذا الاستثناء فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مفعول من أجله، وهو استثناء مفرغ؛ إذ التقدير : وما جعله لشيء من الأشياء إلا للبُشْرَى، وشروط نصبه موجودة، وهي اتحاد الفاعل، والزمان، وكونه مصدراً سبق للعلة.