فصل


وأصْل الإصرار : الثبات على الشيء.
قال الحسن : إتيان العبد ذَنْباً عَمْداً إصرار، حتى يتوب.
وقال السُّدِّي : الإصرار : السكوت وتَرْك الاستغفار.
وعن أبي نُصيرة قال : لقيت مولّى لأبي بكر، فقلتُ له : أسَمِعْتَ من أبي بكر شيئاً؟
قال : نعم، سمعته يقول : قال رسول الله ﷺ :« مَا أصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ، وَإنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبِعِين مَرَّةً ». وقيل : الإصرار : المداومة على الشيء، وتَرْك الإقلاع عنه، وتأكيد العزم على ألا يتركه، من قولهم : صر الدنانير، إذا ربط عليها، ومنه : صُرَّة الدراهم - لما يربط منها-.
قال الحُطََيْئة : يصف خيلاً :[ الطويل ]
١٦٢٠- عَوَابِسُ بِالشُّعْثِ الْكُمَاةِ إذَا ابْتَغَوْا عُلاَلَتَها بِالْخُحْصَدَاتِ أصَرَّتِ
أي : ثبتت، وأقامت، مداغومة على ما حملت عليه.
وقال الشاعر :[ البسيط ]
١٦٢١- يُصِرُّ بِاللَّيْلِ مَا تُخْفِي شَوِاكِلُهُ يَا وَيْحَ كُلِّ مُصِرِّ القَلْبِ خَتَّارِ
و « ما » في قوله :﴿ على مَا فَعَلُواْ ﴾ يجوز أن تكون اسمية بمعنى : الذي، ويجوز أن تكون مصدرية.
قوله :﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ يجوز أن يكون حالاً ثانية من فاعل ﴿ فاستغفروا ﴾، وأن يكون حالاً من فاعل ﴿ يُصِرُّوا ﴾، والتقدير : ولم يُصِرُّوا على ما فعلوا من الذنوب بحال ما كانوا عالمين بكونها محرمة؛ لأنه قد يُعْذَر مَنْ لا يعلم حرمة الفعل، أما العالم بالحرمة، فإنه لا يعذر.
ومفعول ﴿ يَعْلَمُونَ ﴾ محذوف للعلم به.
فقيل : تقديره : يعلمون أن الله يتوب على مَنْ تاب، قاله مجاهد.
وقيل : يعلمون أن تَرْكه أوْلَى، قاله ابنُ عباس والحسن.
وقيل : يعلمون المؤاخذة بها، أو عفو الله عنها.
وقال ابْنُ عَبَّاسِ، ومُقَاتِلٍ، والحَسَنُ، والكَلْبِيُّ : وهم يعلمون أنها معصية.
وقيل : وهم يعلمون أن الإصرارَ ضار.
وقال الضَّحَّاكُ : وهم يعلمون أن الله يملك مغفرةَ الذنوب، وقال الحسن بن الفضل : وهم يعلمون أن لهم رباً يغفر الذنوب.
وقيل : وهم يعلمون أن الله تعالى، لا يتعاظمه الْعَفْو عن الذنوب - وإن كثرت-.
وقيل : وهم يعلمون أنهم إن استغفروا غُفِرَ لهم.
قوله :﴿ أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ ﴾، والمعنى : أن المطلوب بالتوبة أمران :
الأول : الأمن من العقاب، وإليه الإشارة بقوله :﴿ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ ﴾.
والثاني : إيصال الثواب إليه، وهو المراد بقوله :﴿ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا ﴾.
قوله :﴿ مِن رَّبِّهِمْ ﴾ في محل رفع؛ نعتاً لِ « مَغْفِرَةٌ »، و « مِنْ » للتبعيض، أي : من مغفرات ربهم.
قوله :﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ حال من الضمير في ﴿ جَزَآؤُهُمْ ﴾ ؛ لأنه مفعول به في المعنى؛ لأن المعنى : يجزيهم الله جنات في حال خلودهم ويكون حالاً مقدراً، ولا يجوز أن تكون حالاً من « جَنَّاتٌ » في اللفظ، وهي لأصحابها في المعنى؛ إذْ لو كان ذلك لبرز الضمير، لجَرَيان الصفة على غير مَنْ هي له، والجملة من قوله :﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ﴾ في محل رفع؛ نعتاً لِ « جَنَّاتٌ ». وتقدم إعراب نظير هذه الجمل.
قوله :﴿ وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين ﴾ المخصوص بالمدح محذوف، تقديره : ونِعْمَ أجر العاملين الجنة.

فصل


دلَّتْ هذه الآية على أن الغفران والجنات يكون أجراً لعملهم، وجزاءً عليه.
قال القَاضِي : وهذا يُبْطِل قولَ مَنْ قال : إن الثواب تفضُّل من الله، وليس بجزاءٍ على عملهم.
قال ثابت البُنَانِي : بلغني أن إبليسَ بكَى حين نزلت هذه الآية ﴿ والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله ﴾ الآية.


الصفحة التالية
Icon