وقيل : المراد منه : ويُكرِم قوماً بالشهادة؛ وذلك : لأن قوماً من المسلمين فاتهم يومُ بدر، وكانوا يتمنَّوْن لقاء العدو، وأن يكونن لهم يوم كيوم بدر؛ يقاتلون فيه العدو، ويلتمسون فيه الشهادة، و القرآن مملوءٌ من تعظيم حال الشهداء، فإنه قرتهم مع النبيين في قوله :﴿ وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء ﴾ [ الزمر : ٦٩ ] وقوله :﴿ فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين ﴾ [ النساء : ٦٩ ] وهذه الآيات تدلُّ على أن جميع الحوادث بإرادة الله تعالى.
والشُّهداء : جمع شهيد كالكُرَماء، والظُّرَفَاء.
فصل
في تسميتهم « شهداء » وجوه :
أحدها : قال النَّضْر بن شميل : الشهداء أحياء، لقوله تعالى :﴿ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [ آل عمران : ١٦٩ ] فأرواحهم حية، وقد حضرت دار السلام، وأرواح غيرهم لا تشهدها.
الثاني : قال ابن الأنباريّ : لأن الله تعالى وملائكته شهدوا لهم بالجنة، فالشهداء جمع شهيد، « فعيل » بمعنى :« مفعول ».
الثالث : لأنهم يشهدون يوم القيامة مع النبيِّين والصِّدِّيقين، فيكونون شهداءَ على الناسِ.
الرابع : سُمُّوا شهداء، لأنهم لما ماتوا أدْخِلوا الجنة، بدليل أنَّ الكُفَّار لما ماتوا أدخِلوا النار؛ قال تعالى :﴿ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ﴾ [ نوح : ٢٥ ].
فأما :﴿ والله لاَ يُحِبُّ الظالمين ﴾ فهذا اعتراض بين بعض التعليل وبعض.
قال ابن عباس : أي : المشركين؛ لقوله تعالى :﴿ إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [ لقمان : ١٣ ].
قوله :﴿ وَلِيُمَحِّصَ الله الذين آمَنُواْ ﴾ التمحيص : التخليص من الشيء.
وقيل : المَحْص كالفَحْص، لكن الفَحْص يقال في إبراز الشيء من أثناء ما يختلط به وهو منفصل، والمَحْص : يقال في إبرازه عما هو متصل به، يقال : مَحَصْتُ الذهب، ومحَّصته - إذا أزلْت عنه ما يشوبه من خَبَث، ومَحَص الثوب : إذا زال عنه زئبره ومَحَصَ الحَبْل - إذا أخلق حتى ذهب عنه زئبره، ومحص الظَّبْيُ : عدا. ف « محص » - بالتخفيف - يكون قاصراً ومتعدياً، هكذا روى الزجاج هذه اللفظةَ - الحبل - ورواها النقاش : مَحَص الجمل - إذا ذهب وَبَرُه وامَّلَسَ - والمعنيان واضحان.
وقال الخليل : التمحيص : التخليصُ من الشيء المعيب.
وقيل : هو الابتلاء والاختبار.
قال الشاعر :[ الطويل ]
١٦٣٣- رَأيْتُ فُضَيْلاً كَانَ شَيْئاً مُلَفَّفاً | فَكَشَّفَهُ التَّمْحِيصُ حَتَّى بَدَا لِيَا |
[ وأنشد ابن الأنباريّ على ذلك ] - يصف فرساً- :[ البسيط ]
١٦٣٤- صُمُّ النُّسُورِ، صِحَاحٌ، غَيْرُ عَاثِرَةٍ | رُكِّبْنَ فِي مَحِصَاتٍ مُلْتَقَى العَصَبِ |
قال المبرد : ومعنى قول الناس مَحِّصْ عنا ذُنوبَنَا : أذهِب عنا ما تعلَّق من الذنوب.
قال الواحديُّ :« وهذا - الذي قاله المبردُ - تأويل المحَص - بفتح الحاء - وهو واقع، والمَحْص - بسكون الحاء - » مصنوع « - وقال الخليل : يقال : مَحَصْت الشيء أمحصه مَحْصاً - إذا أخلصته من كل عيب ».