« ما » نافية، ولا عمل لها هنا مطلقاً - أعني : على لغة الحجازيين والتميميِّين؛ لأن التميميين لا يعملونها - ألبتة - والحجازيين يُعْملونها بشروط، منها : ألا يَنْتَقضَ النفي ب « إلا » إذْ يزول السبب الذي عَمِلَتْ لأجله - وهو شبهها ب « ليس » في نفي الحال - فيكون « مُحَمَّدٌ » مبتدأ، و « رَسُولٌ » خبر.
هذا - [ أعني : إهمالها إذا نُقِضَ نفيُها ] - مذهب الجمهور، وقد أجاز يونس إعمالها مُنْتَقَضَةَ النَّفْيِ ب « إلا ».
وأنشد :[ الطويل ]

١٦٤٢- وَمَا الدَّهْرُ إلاَّ مَنْجَنُوناً بِأهْلِهِ وَمَا صَاحِبُ الْحَاجَاتِ إلاَّ مُعَذَّبا
فنصب « منجنوناً »، و « مُعَذَّباً » على خبر « ما » - وهما بعد « إلا » -.
ومثله قول الآخر :[ الوافر ]
١٦٤٣- وَمَا حَقُّ الَّذِي يَعْثُو نَهَاراً وَيَسْرِقُ لَيْلَهُ إلاَّ نَكَالا
ف « حق » اسم « ما » و « نكالا » خبرها.
وتأول الجمهورُ هذه الشواهدَ على أنَّ الخبر محذوف، وهذا المنصوب مَعْمُولٌ لذلك الخبر المحذوفِ، والتقدير : وما الدَّهر إلا يدور دورانَ منجنونٍ، فحُذف الفعلُ الناصبُ لِ « دَوَرَانَ » ثم حُذِفَ المضافُ، وأقيمَ المضافُ إليه مقامه في الإعراب، وكذا :« إلا مُعَذَّباً » تقديره : يُعَذَّبُ تعذيباً، فحُذِف الفعلُ، وأقيم « معذَّباً » مقام « تَعْذِيب »، كقوله تعالى :﴿ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ [ سبأ : ١٩ ] أي : كل تمزيق. وكذا :« إلا نَكَالاً »، وفيه من التكلُّف ما ترى.
و « مُحَمَّدٌ » هو المستغرق لجميع المحامد؛ لأن الحَمْد لا يستوجبه إلا الكامل، و التحميد فوق الحمد، فلا يستحقه إلا المُسْتَوْلي على الأمَد في الكمال. وأكرم الله نبيه باسمين مشتقَّيْن من اسمه - جل جلاله - وهما محمد وأحمد.
قال أهل اللغة : كل جامع لصفات الخير يُسَمَّى « محمدا ».
قوله :﴿ قَدْ خَلَتْ ﴾ في هذه الجملة وجهان :
أظهرهما : أنها في محل رفع؛ صفة لِ « رَسُولٌ ».
الثاني : أنها في محل نصب على الحال من الضمي رالمستكن في « رَسُولٌ »، وفيه نظر؛ لجريان هذه الصفة مجرى الجوامد، فلا تتحمل ضميراً.
قوله :« من قبله » فيه وجهان - أيضاً - :
أظهرهما : أنه معلق ب « خلت ».
والثاني : أنه متعلق بمحذوفٍ؛ حال من « الرُّسُلُ » مقدَّماً عليها، وهي - حينئذ - حال مؤكِّدة؛ لأن ذِكْرَ الخُلُوِّ مُشْعِرٌ بالقَبْلِيَّة.
وقرأ ابنُ عَبَّاسٍ « رُسُلٌ » - بالتنكير -.
قال ابُو الفَتْحِ : ووجها أنَّه موضع تيسير لأمر النبي ﷺ في أمر الحياة ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك، وكذلك يفعل في أماكن الاقتصاد، كقوله :


الصفحة التالية