ومذهب سيبويه الحقُّ؛ لوجهَيْن :
أحدهما : أنك لو قدمتَ الدجواب، لم يكن للفاء وجه؛ إذ لا يصح أن تقول : أتزوروني فإن زرتك. ومنه قوله :﴿ أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون ﴾ [ الأنبياء : ٣٤ ].
والثاني : أنَّ الهمزة لها صدر الكلام، و « إنْ » لها صدر الكلام، وقد وقعا في موضعهما، والممعنى يتم بدخول الهمزة على جملة الشرط والجوابِ؛ لأنهما كالشيء الواحد.
وقد رد النحويون على يونس بقوله :﴿ أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون ﴾، فإنَّ الفاء في قوله :« فَهُمْ » تعين أن يكون جواباً للشرط، وأتى - هنا - ب « إن » التي تقتضي الشك، والموت أمر محقق، إلاَّ أنه أورده مورد المشكوك فيه؛ للتردد بين الموت والقتل.
فإن قيل : إنه - تعالى - بَيَّن في آيات كثيرة أنه ﷺ لا يُقْتَل، قال :﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ ﴾ [ الزمر : ٣٠ ] وقال :﴿ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس ﴾ [ المائدة : ٦٧ ] وقال :﴿ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ ﴾ [ التوبة : ٣٣ ]، وإذا عُلِم أنه لا يقتل، فلِمَ قال :( أو قتل ) ؟
فالجواب من وجوه :
أحدها : أن صدق القضية الشرطية لا تقتضي صدق جُزْأيها؛ فإنك تقول : إن كانت الخمسة زوجاص كانت مقسمة بمتساويين، فالشرطية صادقة، وجزآها كاذبان، وقال تعالى :﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا ﴾ [ الأنبياء : ٢٢ ] فهذا حَقٌّ، مع أنه ليس فيهما آلهة، وليس فيهما فساد.
الثاني : أن هذا ورد على سبيل الإلزام؛ فإن موسى - عليه السلام - مات ولم ترجع أمتُه عن دينه، والنصارى زعموا أن عيسى قُتِل، ولم يرجعوا عن دينه، فكذا هنا.
وثالثها : أن الموت لا يُوجب رجوع الأمة عن دينه، فكذا القتل وجب ألا يوجب الرجوع عن دينه، لأنه لا فارق بين الأمرين، فلما رجع إلى هذا المعنى، كان المقصود منه الرد على أولئك الذين شكوا في صحة الدين، وهَمُّوا بالارتداد.
فإن قيل : قوله :﴿ { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ﴾ شكٌّ، وهو - على الله تعالى - محال.
فالجواب : أن المراد : أنه سَوَاءً وقع هذا أو ذاك، فلا تأثير له في ضَعْف الدين ووجوب الارتداد.

فصل


قوله :﴿ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ ﴾ أي : صرتم كُفاراً بعد إيمانكم، يقال لكل من عاد إلى ما كان عليه : رجع وراءه، فانقلب على عقبه، ونكص على عقبيه، وذلك أن المنافقين قالوا لضَعَفَةِ المسلمين : إن كان محمد قد قُتِل فالحقوا بدينكم، فقال بعض الأنصار إن كان محمد قد قُتِل فالحقوا بدينكم، فقال بعض الأنصار إن كان محمد قد قُتِل، فإن رَبَّ محمد لم يُقْتَل، فقاتِلوا على ما قاتل عليه محمد ﷺ.
فقد بيَّن - تعالى - أن قتله لا يوجب ضعفاً في دينه بدليلين :
أحدهما : القياس على موت سائر الأنبياء.
والثاني : أن الحَاجَةَ إلى الرسول إنما هي لتبليغ الدين، وبعد ذلك لا حَاجَة إليه، فلم يلزم من قَتْلِه فَسَادُ الدين.


الصفحة التالية
Icon