صَدَقَ يتعدى لاثنين، أحدهما بنفسه، والآخر بالحرفِ، وقد يُحْذَف، كهذه الآية.
والتقدير : صدقكم في وعده، كقولهم : صَدقتُه في الحديث وصدقته الحديث و ﴿ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ ﴾ معمول لِ « صَدَقَكُمْ » أي : صدقكم في ذلك الوقتِ، وهو وقتُ حَسِّهِم، أي : قَتْلهم.
وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولاً للوعد في قوله :« وَعْدَه » - وفيه نظرٌ؛ لأن الوعد متقدِّمٌ على هذا الوقت.
يقال : حَسَسْتُه، أحَسُّه، وقرأ عُبَيْد بن عُمَير : تُحِسُّونَهُم - رباعياً - أي : أذهبتم حِسَّهم بالقتل.
قال أبو عبيدةَ، والزَّجَّاجُ : الحَسُّ : الاستئصال بالقَتْل.
قال الشاعر :[ الطويل ]

١٦٥٨- حَسَنَاهُمُ بِالسَّيْفِ حَسًّا فأصْبَحَتْ بَقِيَّتُهُمْ قَدْ شُرِّدُوا وَتَبَدَّدُوا
وقال جرير :[ الوافر ]
١٦٥٩- تَحُسُّهُمُ السُّيُوفُ كَمَا تَسَامَى حَرِيقُ النَّارِ فِي الأجَم الْحَصِيدِ
ويقال : جراد محسوس - إذ قتله البردُ - والبرد محسة للنبت :- أي : محرقة له، ذاهبته. وسنة حَسُوسٌ : أي : جدبة، تأكل كلَّ شيءٍ.
قال رؤية :[ الرجز ]
١٦٦٠- إذَا شَكَوْنَا سَنَةً حَسُوسَا تَأكُلُ بَعْدَ الأخْضَرِ الْيَبِيسَا
وأصله من الحِسّ - الذي هو الإدراك بالحاسة-.
قال أبو عبيدٍ : الحَسُّ : الاستئصال بالقتل واشتقاقه من الحِسّ، حَسَّه - إذا قتله - لأنه يُبْطل حِسَّه بالقتل، كما يقال : بَطَنَهُ - إذا أصاب بطنه، وَرَأسَهُ، إذا أصاب رأسه.
و « بإذْنِهِ » متعلق بمحذوف؛ لأنه حالٌ من فاعل « تَحُسُّونَهُمْ »، أي : تقتلونهم مأذوناً لكم في ذلك.
قال القرطبيُّ :« ومعنى قوله :» بإذْنه « أي : بعلمه، أو بقضائه وأمره ».

فصل


وجه النظم : قال محمدُ بن كَعْب القُرَظيّ : لما رجع رسول الله ﷺ وأصحابُه إلى المدينة من أحدٍ - وقد أصابهم ما أصابهم - قال ناسٌ من أصحابه : من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا اللهُ بالنصرِ؟ فأنزلَ اللهُ هذه الآية؛ لأنَّ النصرَ كان للمسلمين في الابتداءِ.
وقيل : كان النبي ﷺ رأى في المنام أنه يذبح كَبْشاً، فَصَدَقَ اللهُ رُؤيَاهُ بِقَتْلِ طَلْحَةَ بن عثمان - صاحب لواء المشركين يوم أُحُدٍ - وقُتِل بعده تسعةُ نفر على اللواء، فذلك قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ ﴾ يريد : تصديق الرسول ﷺ.
وقيل : يجوز أن يكون هذا الوعد ما ذكره في قوله تعالى :﴿ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ ﴾ [ آل عمران : ١٢٥ ] إلا أن هذا مشروطاً بشرط الصبرِ والتقوى.
وقيل : يجوز أن يكون هذا الوعد هو قوله :﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب ﴾ [ آل عمران : ١٥١ ].
وقيل : الوعد هو قول النبي ﷺ للرُّماة : لا تبرحوا عن هذا المكانَ؛ فإنا لا نزال غالبين ما دُمْتم في هذا المكان.
قال أبو مسلم : لما وعَدهم اللهُ - تعالى - في الآية المتقدمة - بإلقاء الرعب في قلوب الكفارِ، أكد ذلك بأن ذكرهم ما أنجزهم من الوعدِ بالصبر في واقعة أُحُدٍ، فإنه لما وعدهم بالنصر - بشرط أن يتقوا ويصبروا فحين أتَوْا بذلك الشرطِ، وفى الله تعالى لهم بالمشروطِ.


الصفحة التالية
Icon