قوله :﴿ ثُمَّ صَرَفَكُمْ ﴾ عطفٌ على ما قبله، والجملتان من قوله :﴿ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة ﴾ اعتراض بين المتعاطفين، وقال أبو البقاء :﴿ ثُمَّ صَرَفَكُمْ ﴾ معطوف على الفعل المحذوف.
يعني الذي قدره جواباً للشرط، ولا حاجة إليه، و « لِيَبْتَلِيَكُمْ » متعلق ب « صَرَفَكُمْ » و « أن » مضمرة بعد اللام.
فصل
اختلفوا في تفسير هذه الآية؛ وذلك لأن صَرْفَهم عن الكفار معصية، فكيف أضافه إلى نفسه؟ فقال جمهورُ المفسّرينَ : الخيرُ والشر بإرادة اللهِ تَعَالَى وتخليقه، ومعنى هذا الصَّرْفِ أنَّ اللهَ تعالى رَدَّ المسلمينَ عن الكفارِ وألقى الهزيمةَ عليهم، وسلَّط الكفارَ عليهم.
وقالت المعتزلةُ : هذا التأويل غير جائز؛ للقرآن والعقل، أم القرآنُ فقوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ ﴾ [ آل عمران : ١٥٥ ] فأضاف ما كان منهم إلى فعل الشيطان فكيف يُضيفه بعد هذا إلى نفسه؟
وأما المعقولُ فإن اللهَ تعالى عاتَبَهم على ذلك الانصراف، ولو كان ذلك بفعل اللهِ لم تَجزْ مُعَاتَبَتَهُم عليه، كما لا يجوز معاتبتهم على طُولِهِمْ وقِسَرِهم، ثم ذكروا وجوهاً من التأويل :
أحدها : قال الجبائيُّ : إنَّ الرُّماةَ افترقوا فِرْقَتَيْن، فبعضهم فارق المكان لطلب الغنائم، وبعضهم بقي هناك، فالذين بَقُوا أحاط بهم العَدُوُّ، فلو استمروا هناك لقتلهم العدُوُّ من غير فائدةٍ أصْلاً، فلهذا السبب جاز لهم أن يتنحوا عن ذلك إلى موضع يتحرزون فيه عن العدو - كما فعل النبي ﷺ حين ذهب إلى الجبل في جماعة من أصحابه - ولم يكونوا عُصَاةً بذلك، فلما كان ذلك الانصراف جائزاً أضافه إلى نفسه، بمعنى أنه كان بأمره وإذنه، ثم قال :﴿ لِيَبْتَلِيَكُمْ ﴾ والمرادُ : أنه - تعالى - لما صرفهم إلى ذلك المكانِ، وتحصَّنُوا به، أمرهم - هناك - بالجهادِ، والذَّبِّ عن بقية المسلمينَ، ولا شك أن الإقدامَ على الجهادِ بعد الانهزامِ، وبعد أن شاهدوا قَتْل أقاربهم وأحِبَّائهم من أعظم أنواع الابتلاء.
فإن قيل : فعلى هذا التأويل، هؤلاء الذين صرفهم الله عن الكفار ما كانوا مُذْنِبِين، فلم قال :﴿ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ ﴾.
قلنا : الآية مشتملة على ذِكْر مَنْ كان معذوراً في الانصرافِ، ومَنْ لم يكن معذوراً، أو هم الذين بدءوا بالهزيمة، فقوله :﴿ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ ﴾ راجعٌ إلى المعذورينَ؛ لأنَّ الآية لما اشتملتْ على قسمينِ، وعلى حُكمين، رَجَعَ كلُّ حكم إلى القسم الذي يليق به، ونظيره :﴿ ثَانِيَ اثنين إِذْ هُمَا فِي الغار إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ﴾ [ التوبة : ٤٠ ] والمرادُ الذي قال له : لا تحزن إن اللهَ مَعَنَا - وهو أبو بكر - لأنه كان خائفاً قبل هذا القولِ، فلما سَمِعَ هذا القولَ سَكَنَ، ثم قال :« وَأيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا » وعنى بذلك الرسول ﷺ دون أبي بكرٍ؛ لأنه قد جرى ذكرهما جميعاً، هذا قول الجبائي.