وأما على قول من يعتبر المصالح في أفعال اللهِ وأحكامِهِ، فلا يبعد أن يكون للهِ حكمٌ خفيَّةٌ، وألطافٌ مَرْعِيَّةٌ في تخلية الكافر بحيثُ يقهر المسلم، فإنَّ الدنيا دارُ امتحانٍ وابتلاء، ووجوه المصالحِ مستورةٌ عن العقول.
قال القفال : لو كان كون المؤمنِ محقاً يوجب زوال هذه المعاني لوجب أن يضطر الناسُ إلى معرفة كون المُحِقّ مُحِقًّا، وذلك ينافي التكليفَ، واستحقاق الثوابِ والعقابِ، والمُحِقُّ إنما يُعْرَف بما معه من الدَّلائل والبيِّنات، فأمّا القَهْرُ فقد يكونُ من المُبْطِل للمحقِّ ومن المحِقِّ للمُبْطِلِ.
الاحتمالُ الثاني : أن ذلكَ الظنَّ هو أنهم كانوا يُنكِرون إلَه الْعَالَمِ، وينكرون النبوةَ والبعثَ - فلا جَرَمَ - ما وثقوا بقول النبيِّ صلى الله عليه وسفم في أنَّ اللهَ تعَالى يُقَوِّيهم وَيَنْصُرُهُمْ.
وقيل : ظنوا أن محمداً قد قُتِل. و ﴿ ظَنَّ الجاهلية ﴾ بدل من قوله :﴿ غَيْرَ الحق ﴾ وفائدة هذا الترتيب أنَّ غَيْرَ الحقِّ أديانٌ كثيرةٌ، وأقبحُهَا مقالة أهل الجاهلية، فذكر أنهم يظنون بالله غير الحق ثم بيَّن أنهم اختاروا من أقسامِ الأديانِ التي هي غيرُ حَقَّةٍ أقبحها وأكثرها بطلاناً، وهو ظنُّ أهل الجاهلية.
قوله :﴿ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ ﴾ « من » - في ﴿ مِن شَيْءٍ ﴾ - زائدة في المبتدأ، وفي الخبر وجهانِ :
أحدهما - وهو الأصحُّ- : أنه « لَنَا » فيكون ﴿ مِنَ الأمر ﴾ في محل نصبٍ على الحالِ من « شَيءٍ » لأنه نعتُ نكرة، قدم عليها، فنصب حالاً، وتعلق بمحذوفٍ.
الثاني :- أجازه أبو البقاء - أن يكون ﴿ مِنَ الأمر ﴾ هو الخبر، و « لنا » تبيين، وبه تتم الفائدةُ كقوله :﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ﴾ [ الإخلاص : ٤ ].
وهذا ليس بشيء؛ لأنه إذا جعله للتبيين فحينئذٍ يتعلق بمحذوفٍ، وإذا كان كذلك فيصير « لَنَا » من جملة أخرى، فتبقى الجملةُ من المبتدأ والخبر غير مستقلةٍ بالفائدةِ، وليس نظيراً لقوله :﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ﴾ فإن « لَهُ » فيها متعلق بنفس « كُفُواً » لا بمحذوفٍ، وهو نظيرُ قولكَ : لم يكن أحدٌ قاتلاً لبكرٍ. ف « لبكر » متعلق بنفس الخبر. وهل هنا الاستفهام عن حقيقته، أم لا؟ فيه وجهانِ :
أظهرهما : نَعَمْ، ويعنون بالأمر : النصر والغلبة.
والثاني : أنه بمعنى النفي، كأنهم قالوا : ليس لنا من الأمر - أي النصر - شيء، وإليه ذَهَبَ قتادةُ وابنُ جُرَيْجٍ.
ولكن يضعف هذا بقوله :﴿ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ ﴾ فإن من نَفَى عن نفسه شيئاً لا يجاب بأنه ثبت لغيره؛ لأنه يُقِرُّ بذلك، اللهم إلاَّ أن يقدر جملة أخرى ثبوتية مع هذه الجملة، فكأنَّهم قالوا : ليس لنا من الأمر شيءٌ، بَلْ لمن أكرهنا على الخروج وحَمَلَنا عليه، فحينئذ يحْسُن الجوابُ بقوله :﴿ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ ﴾ لقولهم هذا، وهذه الجملةُ الجوابيةُ اعتراض بين الجُمَل التي جاءت بعد قوله :« وطائفة » فإن قوله :﴿ يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم ﴾ وكذا ﴿ يَقُولُونَ ﴾ - الثانية - إما خبر عن « طَائِفَةٌ » أو حال مما قبلها.


الصفحة التالية
Icon