أما الاعتبار الأول، فإنه قال :« يعني لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ليجعله اللهُ حَسْرةً في قلوبكم خاصَّةً، ويصون منها قلوبكم »، فجعل ذلك إشارة إلى القول والاعتقاد.
وأما الاعتبار الثاني فإنه قال :« ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى ما دلَّ عليه النَّهْيُّ، أي : لا تكونوا مثلهم؛ ليجعلَ اللهُ انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم؛ لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون مما يغمُّهم ويغيظهم ».
وردّ عليه أبو حيان المعنى الأول بالمعنى الثاني الذي ذكره هو، فقال -بعد ما حكى عنه المعنى الأول :- « وهو كلام شيخ لا تحقيق فيه؛ لأن جَعْلَ الحسرة لا يكون سبباً للنهي، إنما يكون سبباً لحصول امتثال النهي، وهو انتفاء المماثلة، فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون، يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم، إذ لم توافقهم فيما قالوه واعتقدوه، لا تضربوا في الأرض ولا تغزو، فالتبسَ على الزمخشريِّ استدعاء انتفاء المماثلة لحصول الانتفاء، وفَهْم هذا فيه خفاءٌ ودقةٌ ».
قال شهاب الدين : ولا أدري ما وجه تفنيد كلام أبي القاسم، وكيف رد عليه على زعمه بكلامه؟
وقال أبو حَيَّانَ -أيضاً- :« وقال ابنُ عِيسَى وغيره، اللامُ متعلِّقة بالكون، أي : لا تكونوا كهؤلاء، ليجعل الله ذلك حَسْرَةً في قلوبهم دونكم، ومنه اخذ الزمخشريُّ قوله، لكن ابن عيسى نَصَّ على ما تتعلق به اللام، وذاك لم ينص، وقد بينَّا فساد هذا القول ».
وقوله : وذاك لم ينص، بل قد نَصَّ، فإنه قال : فإن قُلْتَ : ما متعلق ﴿ لِيَجْعَلَ ﴾ ؟ قلت :﴿ َقَالُواْ ﴾ أو ﴿ لاَ تَكُونُواْ ﴾. وأيُّ نَصٍّ أظهرُ من هذا؟ ولا يجوز تعلق اللام -ومعناها التعليل- ب ﴿ قَالُواْ ﴾ لفساد المعنى؛ لأنهم لم يقولوه لذلك، بل لتثبيط المؤمنين عن الجهاد.
وعلى القول الثاني -أعني : كونها للعاقبة تتعلق ب ﴿ قَالُواْ ﴾ والمعنى : أنهم قالوا ذلك لغرض من أغراضهم، فكان عاقبة قولهم، ومصيره إلى الحسرة، والندامة، كقوله تعالى :﴿ فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ﴾ [ القصص : ٨ ] وهم لم يلتقطوه لذلك، ولكن كان مآله لذلك. ولكن كونها للصيرورة لم يعرفه أكثر النحويين، وإنما هو شيءُ ينسبونه للأخفش، وما ورد من ذلك يؤولونه على العكس من الكلام، نحو :﴿ فَبَشِّرْهُم ﴾ [ آل عمران : ٢١ ] وهذا رأي الزمخشري؛ فإنه شبه هذه اللام باللام في ﴿ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ﴾ [ القصص : ٨ ] ومذهبه في تلك أنها للعلة -بالتأويل المذكور والجَعْلُ -هنا- بمعنى التَّصْييرِ.
فصل
اختلفوا في المشار إليه ب « ذَلِكَ » : فعن الزَّجاجِ هو الظَّنُّ، ظنوا أنهم لو لم يحضروا لم يُقْتَلُوا.
وقال الزمخشريُّ ما معناه : الإشارة إلى النطق والاعتقاد بالقول.